يشهد عالمنا اليوم حوارات وسجالات حول العولمة والتعايش المجتمعي وعلاقة العقل والذات، لكن هل تمكننا تلك السجالات من التخلص من تحيزاتنا ومنها( التحيز إلى التقليد) كما يسميه غادامير، معلنين حقيقة كينوناتنا ومتخلصين من سلطة المعرفة الانضباطية التي فيها الذات لا توجد إلا ضمن حقل قوة أو سلطة خطاب وتبعية ذات.
إن جوهر الوعي الجمالي ينبغي أن يكون في القيمة التي يسبغها الفرد ـ رجلا كان أو امرأة ـ على نفسه والآخرين متبرئا من الأنوية ومتبرما من النرجسية والإفراط في النظرة الأحادية والإحساس بالمركزية. وهو ما تسعى( النسوية العمومية) إلى تبنيه بشكل ثقافي بغية جعل الأفراد معنيين بأنفسهم على نحو شامل وجاذب وشعبي وقد تضافرت قواهم بجماعية، منتجة ثقافة جديدة ستعزز هذا الميل العمومي الذي فيه المرأة جوهر في مجموعة جواهر، ومركز في مجموعة مركزيات، وذات واحدة من مجموعة ذوات أخرى وبسيرورة لا تعتريها عقبات أو مطبات أو إشكاليات.
وبرفض النسوية لخصوصيتها وما تدلل عليه من الأنانية والنرجسية تتمسك بالنظرة الكلية التي هي ليست نظرة معيارية بل هي عمومية نابعة من رغبة في التشارك مع الأبوية والتباعد عن السلطة الانفرادية المجتمعية. ولا شك أن التمسك بالتشارك والرغبة في التعميم هما دليلان قاطعان على ديمقراطية النسوية وانفتاحية فكرها في كل الأحوال، لاسيما في ظروف يتهدد فيها المجموع البشري بالكوارث والأزمات أو بالحروب والإبادات. وهو ما يجعل عالمنا مجتمعا واحدا له سيرورته المفتوحة واللانهائية في الانجاز والمواجهة إزاء كل ما يتعلق بالبشر ومستقبل عالمهم. وسواء بالعولمة أو بما بعدها فإن التشارك البشري في المصير سيكون متوقفا بصورة جوهرية على علاقات بعضهم أفرادا وجماعات وكلما كان التوافق بين هذه العلاقات متحققا، ابتعد المجتمع عن الاحتراب بالتمييز والاستغلال والتبعية. وإذا اقتنعنا أننا نعيش في مجتمع خطير فإن أشكال التعايش الجديدة ستغدو متحققة ومنطقية على مختلف الصعد الحياتية عملا وتواصلا. ولا تتوكد إنسانية البشرية إلا بانخراطها في نشاط عام تبتغي منه الإنتاج الذي فيه نفعها ونفع غيرها.
و(النسوية العمومية) برفضها للتخصص ترفض الأحادية منحازة للعلمية وفرضياته الساعية نحو الكلية بفلسفة عامة ومنطق تفسيري يحاول إظهار جوانب ومجالات وقيم مختلفة تخص المرأة. ولا سبيل لإثبات النظرة الكلية للعلم من دون أن تتبنى النسوية فلسفة بها تتخلخل الهرمية البطريركية، مضيفة إلى نظامها تفسيرات علمية وقيما جديدة، فتغدو النسوية بتلك النظرة أكثر إبداعية وإنتاجية.
وتؤكد توجهات المفكرين والفلاسفة في العصر الحديث أن النسوية كانت في البدء علمية أكثر منها فلسفية. وفي مقدمتهم ستيوارت ميل وزوجته هارييت تايلور. وتؤيده بعض المفكرات الرائدات مثل روزا لوكسمبورغ 1870ـ 1919 التي طوعت نظرتها الماركسية نحو قضايا التحرر والتطور الاقتصادي الحتمي ضامة النساء إلى البروليتاريا كما أن ظهور عالمات مثل ماري كوري وروز اليند فرنكلين وليندا جين شيفرد التي فندت الفكرة الذكورية أو مقولة إن العلم يفصح عن ذكوريته.
ولم تكن النظرة العلمية بغائبة عن فكر الفيلسوفة حنة ارندت إزاء الواقع الذكوري ما بعد الاستعماري، هذا الواقع الذي أيقظ كثيرا من أفكار النسوية نظريا وتطبيقيا، فاللغة ليست صنيعة الرجل وحده والنظرة النسوية موجودة في كل شيء في الفن والرسم والنقد والعقل والجنون والجنوسة، غير أن المعيب أن تلك الأفكار التي تبناها الخطاب النسوي ظلت متسمة بالتضييق وبعض الأحيان بالتطرف كما في النسوية الراديكالية التي كانت مغالية وهي تريد إنهاء المجتمع الامومي والمركزية الذكورية وأعباء المرأة من الحمل والولادة.
وبالرغم من ذلك التضييق وهذه المغالاة فإن كثيرا من التوجهات النسوية وخاصة تلك التي ظهرت في ثمانينيات القرن العشربن تبنت طروحات علمية منها تبني التحليل العابر للثقافات من أجل استكشاف وتقويم المفاهيم المتعلقة بالمرأة عبر الثقافات المختلفة، ومنها تبني مفهوم الرجل الجديد الذي يناصر النسوية ومنها الاهتمام بإظهار نمطية الصورة التاريخية للذكورة ومنها ابتكار التصوف الذي به تكتب المرأة سيرتها الذاتية كفن بدأ نسويا ثم استحوذ عليه الرجال منذ القرن التاسع عشر.
أما بقاء النسوية قابعة في النظرة الخصوصية إلى نفسها بوصفها حركة فكرية أو تيارا سياسيا فإن الحال سيبقى على ما هو عليه وتظل النظرة للعلم أحادية متصفة في الغالب بأنها ذكورية.
فبالنظرة الكلية للعلم تكتسب النسوية عموميتها وتتمكن من توكيد حقيقة أموميتها السابقة تاريخيا على البطريركية، وليس في توكيد اموميتها خصوصية وإنما هي ماهيتها التي منها تشكلت أولا الأسرة وانتهت بالدولة. ولا خلاف أن النساء كن ملكات قبل الملوك، فالملكة الفرعونية مريت نيت هي أول امرأة تولت الحكم في التاريخ.
وبالنظرة العلمية أيضا نوصرت كثيرٌ من الطروحات الفلسفية النسوية من قبل مفكرات وناقدات أظهرن اهتماما كبيرا بالنسوية مثل ليندا هتشيون التي وضعت يدها على مفارقة أن النسوية في الوقت الذي تجد فيه الخطابات البطريركية خيالات فإنها تنطلق منها أيضا متبنية منطق الذكورية توكيدا للاعتقاد أن اضطهاد المرأة كان أقرب إلى أن يكون حقيقة؛ مدللة على أن هناك تورطا ثنائي الأبعاد بين النسوية وما بعد الحداثة في نظرتها للايديولوجيات والسرديات الكبرى من ناحية نزع التأثير ونزع الطبيعة. ومثلت على ما تقدم بمصطلح (ما وراء القص التاريخي) وأن النسويات وظفنه ببراعة والبغية إحداث التأثير المطلوب ضد السرديات البطريركية التي جرى تطبيعها لتكون في صالح الذكورية على نحو خاص.
من هذا المنطلق العمومي تفيد النسوية من فلسفة العلم معتمدة على فرضية التعامل المنطقي العميق مع المقولات والمفاهيم التي تصب في خدمة القضية النسوية والفكر النسوي ومن ثم ابتكار فلسفة نسوية أصيلة تفيد من تحولات ما بعد الحداثة في النظر إلى الذات ودورها المحوري في المعرفة.