التصوف المنفلت فيروس يضرب الجسد الشعري

ثقافة 2020/11/04
...

 عادل الصويري
 
بات واضحًا أنَّ كل المفاهيم خاضعة للانفلات من قيمتها، ومن اشتراطات التعامل بها، وعلى كل الصعد. في واقعنا الشعري، ثمة حالة أصبحت مثل (الموضة) تتلخص بظاهرة التصوف المنفلت، إذ نرى الغالبية العظمى من شعراء اليوم، ينقعون قصائدهم بمفردات تنتمي للعالم الصوفي، لكنَّ ملامستهم لهذا العالم تبدو قشرية؛ لضعف معرفتهم الدينية، أو لأنهم فكريا أبعد ما يكون عن الروحانيات، أو الأفكار ذات المساس المباشر بقضايا اللاهوت وعلم النفس والفلسفة.
ولا يمكن بحال من الأحوال، الاتكاء الفني على مفردات وعبارات تنتمي لمفهوم التصوف، من أجل إثبات فنتازيا شعرية. التصوف حالة توحد مع الذات تحكمها علاقة جدلية لا يمكن اختزالها انفعالياً بمفردات مثل (الناي/ الدخان/ الدروشة) وغيرها من المفردات التي نطالعها، وهي في الحقيقة مفردات جميلة، لكن أن يتم ادعاء تصوف النص المغرق بها فهو ما يجب التوقف عنده؛ لمنع حالة الخلط بين الحقيقي من التصوف، والمنفلت منه.
والاختلاف حول صوفية النصوص من عدمها، ليس جديداً، فقد حضر كثير من الجدل حول صوفية بعض النصوص الملحمية – ملحمة الإلياذة الإغريقية مثالاً – فهي ومع حضور بعض العمق فيها، ومناخات ممهدة، إلا أنها لم تصل لفحوى التصوف الروحي الحقيقي.
أما «إلياذات» اليوم، فيراد لها أن تكون صوفية حتى مع افتقادها لمناخات الإلياذة الأصلية محل الجدل. وقد غاب عن «الصوفيين» الجدد ضرورة الفصل بين ما هو ديني، وما هو صوفي، في التجربة الكتابية، فليس من المنطقي القول بصوفية النص لمجرد إغراقه بمناخات قرآنية، يتم التصرف فيها شعرياً، وهو تصرف لا ينتمي لا لما يعرف بـ (المكون البنائي للعبارة الشعرية) ولا للتجربة الباطنية المتصلة بمفهوم المطلق، أي لا ينتمي لقول الإمام الغزالي عن التصوف بأنه (أمر باطن لا يُطَّلع عليه).إنَّ الحضور الشعري في التصوف لا بد أن يمثل قدرةً على فهم الحاضر الذي يستشف ما سيحضر لاحقاً، والأهم من كل ذلك هو تسامي الشاعر على كل ما هو مادي، ومثل هذا التسامي يقترب من المستحيل إلا ما ندر، فضلاً عن الإيمان بأن التصوف أنواع لا نوعا واحدا، فيمكن للمبدع أن يخلق العوالم التي يندمج فيها وتندمج فيه من خلال الطبيعة، أو ما يعلق بالذاكرة من أحداث وشخوص وأماكن.فمثلما هناك تصوف يسمو بالوجدان إلى الملكوت والحضرة الإلهية، ويجعله فانياً فيها كقول رابعة العدوية:
«أُحِبُّكَ حُبَّينِ حُبَّ الهوى/ وَحُبَّاً لأنَّكَ أهلٌ لِذاكَ
فَأَمّا الذي هو حُبُّ الهوى/ فَشُغْلي بِذِكْرِكَ عَمَّن سواكَ
وَأَمّا الذي أنت أهْلٌ له/ فَكَشْفُكَ لي الحُجْبَ حتى أراكَ»
هناك ايضاً تصوف يجعل الذات فانيةً في عشق المكان، ذائبةً فيه، ساعيةً لاكتشافِ أسرارِه، ومثل هذا المنحى يحضر في بعض نصوص الشاعر علاوي كاظم كشيش التي تسبر أغوار المدينة، والاستدلال على حقيقتها على نحو يجسد الاندماج المتبادل:
«لكِ جمرتي وأنا المُقيمُ الراحِلُ/ أمحو المرايا كي يزولَ الزائلُ 
مستسلماً لبريدِ روحي نازِفاً/   طُرُقي تضيقُ ورحلتي تتطاولُ
أمضي إلى قلقِ العناصرِ داخلاً/  إيقاعَها الكونيَّ أو أتداخَلُ
تبعثرتْ اللغةُ هذا الصباح، شارعٌ واحد لا يدلُّ عليكِ ولا امرأةٌ نارية العطر والجسد. الخرائطُ ابيضَّت فطاردكِ اللونُ، ورأى آثارَ خُضْرَتِكِ على السهول، ودمعك فوق السفوح. تبعثرت اللغة، سالت الكلمات، فبأيِّ معنًى تلوذين؟ لا يدلُّ عليكِ شارعٌ أو شاعر، فاظهري من غيابكِ وانتشري».
أما على صعيد اللغة، فإنَّ التصوف يمنح الشعر والشاعر فرصة الانعتاق من لغة يغيب عنها الاحساس التأملي؛ للاندماج في لغة لا وظيفة لها سوى استشراف الجمال والاندماج فيه. لغة غير ميكانيكية، وغير معنية بالترجمة الجاهزة، لغة إشارية تخلق مساحات أكبر للخيال، وتتيح له السباحة في
 اللامرئي.
عدا هذه المعطيات، نعتقد أن لا فائدة من ادعاء التصوف؛ لأنه سيكون منفلتاً من قيمته وحقيقته. وحتى الانفلات سيكون لمجرد الاستعراض بالمفردات والعبارات التي قد يكون حضورها ملائماً لأيِّ سياق إلا التصوف الذي قد يتحول إلى فيروس ينتشر – بفعل العدوى – في جسد الكتابة الشعرية، ما يستدعي ارتداء كمامات التلقّي!