المترجمون العراقيون والنصوص اللسانية

ثقافة 2020/11/07
...

خالد خليل هويدي
 
 
على الرغم من تأخّر حضور البحث اللساني في الجامعات العراقية، قياسًا بالجامعات المصرية والمغربية، اللتين عرفتا اللسانيات في خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي؛ بسبب سيطرة النزعة الفيلولوجية والتيسيرية على أغلب النشاط اللغوي العراقي، لكن النصوص اللسانية التي عكف على ترجمتها الباحثون العراقيون كانت مهمة جدًا في بابها، فضلا عن أنها مثّلت تجربة غنية وفريدة، ربما يكون العراقيون من الروّاد في هذا التوجه؛ وللتدليل على صحة هذه الفرضية، سنقف في هذا المقال على أهم الترجمات اللسانية التي قدّمها الباحثون العراقيون، للمتون اللسانية، التي شكّلت منعرجاتٍ واضحة في الفكر اللساني العالمي، وليس من وكدنا تقديم كشف شامل لمجمل النشاط الترجمي للباحثين العراقيين. ففي العام 1985 صدرت الترجمة العراقية المهمة لنص محاضرات دي سوسير، التي ترجمها عن الانگليزية الدكتور يوئيل يوسف عزيز، وراجعها الدكتور مالك المطلبي.
وهي ترجمة كانت محط احترام وتقدير من لدن الباحثين الذين راجعوا تلكم الترجمة، سواء على مستوى المصطلحات أو الترتيب، والعرض، وقد وصفها الدكتور عز الدين مجذوب بأنها من أكثر الترجمات دقة وأمانة، على الرغم من أنه أخذ عليها عدم اعتمادها النص الفرنسي التي كُتبت بها المحاضرات، وإنما كان اعتمادها على النص الانكليزي الذي أنجزه وايد باسكن عام 1959. 
ومن الجدير بالتنويه هنا أن ترجمة باسكن هي الترجمة الوحيدة المعتمدة في اللغة الانكليزية، وهي لا تزال تمثل حدثًا مهما في الثقافة الانجلو ساكسونية. 
ولعل أهم ما تميزت به الترجمة اللسانية في العراق هي أنها عمدت إلى ترجمة نصوص تأسيسية، مثّلت محطات مهمة في تاريخ الدرس اللساني، على اختلاف مدارسها، وتوجهاتها المعرفية.
فإذا كانت الترجمة العراقية لنص المحاضرات قد سُبقت بالترجمة التونسية التي صدرت عام 1984 فإن المترجمين العراقيين قد انفردوا بترجمة نصوص تشومسكي التأسيسية، فأنموذج البنى النحوية الذي عرضه تشومسكي عام 1957 كان أول حضور له في الثقافة العربية على يد الدكتور يوئيل يوسف عزيز أيضًا، الذي ترجم نص تشومسكي والذي كان البداية الحقيقية للسانيات التوليدية، وصدر في بغداد تحت عنوان (البنى النحوية) عام 1987، وقد راجعه الدكتور مجيد الماشطة.
أما الأنموذج المعيار فقد ترجمه أيضًا الدكتور مرتضى جواد باقر تحت عنوان (جوانب من نظرية النحو) وصدر في البصرة عام 1985. 
وفي عام 1985 ترجم الدكتور مجيد الماشطة كتابا تأسيسًا في علم الدلالة لمؤلفه بالمر، وكان في حينها حدثا مهمًا في ميدان الدرس الدلالي. 
إنَّ الحديث عن النصوص اللسانية التأسيسية لا يعني بأي حال من الأحوال غياب الترجمة لنصوص غير تأسيسية، ذلك أننا نجد ترجمة لكتاب لينز الموسوم بت (تشومسكي) قدمته الباحثة بيداء العلگاوي، وهو كتاب فيه حديث عام عن مسارات النظرية اللسانية التوليدية، بمختلف نماذجها. ولم تقتصر ترجمات العراقيين الأمر على النصوص المرتبطة بالمدارس اللسانية ذات النزعة البنيوية، بل تعدتها لتشمل نصوصا تعود لمدارس ذات نزعة تواصلية، وهو ما نجده فيما قدّمه الباحث هشام عبد الله الخليفة، الذي ترجم نصا يصفه الباحثون بالصعوبة، وهو كتاب (النظرية والصلة)، لمؤلفيه الانثربولوجي الهولندي دان سبيربر واللسانية الانگليزية ديدري ولسون، وهو كتاب يقارب اللغة من وجهة نظر إدراكية، وقد صدر في العام 2016، وبعد سنتين من صدوره حصلت الترجمة التي قام بها الأستاذ هشام عبد الله الخليفة على جائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة في الرياض في العام 2018. فضلا عن أن المؤلف ترجم مؤخرا كتابا مهمًا، حمل عنوان (معجم أوكسفورد في التداولية) وهو من أهم النصوص التي تحاول صياغة حدود التداولية من وجهة نظر مصطلحية، فهو يقدّم للباحثين دليلًا كاملًا وموثوقًا به للمصطلحات والنظريات والمفاهيم المستعملة في الدرس التداولي. 
وتفرّد المترجمون العراقيون بترجمة نصوص أعقد مدرسة لسانية، وهي مدرسة كوبنهاجن، ذات التوجه اللساني المنطقي، والتي تجاوز تأثيرها اللسانيات ليشمل مجالات في النقد الأدبي. فقد عكف الدكتور يوسف اسكندر على ترجمة تراث هذه المدرسة الصعبة، والتي يتحاشى الباحثون الوقوف على نصوصها، لتعقد جهازها الاصطلاحي، ودقة نظراتها للظاهرة اللغوية. 
وقدّم في هذا الإطار أربعة كتب تمثّل تراث هذه المدرسة، وتحديدًا مؤسسيها هيلمسليف وأولدال وهي:
1 -  كتاب هيلمسليف مداخل لنظرية اللغة. 
2 -  كتاب يورغن أوالدال المجمل في الغلوسيماطيقا. 
3 - تحرير وترجمة كتاب أبحاث في الغلوسيماطيقا. 
4 - كتاب هيلمسليف مقدمة في اللغة. 
وهو بعمله الترجمي هذا يكون أول باحث عربي قدّم تراث المدرسة الغلوسيماطيقية مترجمًا في الثقافة العربية، عن طريق تقديمه نصوص هذه المدرسة التأسيسية، وهو رائد هذا التوجه بلا منازع. 
ويختط الدكتور كيان أحمد حازم، الأستاذ في كلية الآداب، جامعة بغداد طريقًا مختلفًا في العمل الترجمي، يتوزع في حقول معرفية متعددة، لكنها تصب في ترجمة النصوص المهمة جدا. ولعل ترجمته لكتاب أوجدن وريتشاردز (معنى المعنى)، الذي صدر في العام 1932، مثّل حدثًا مهمًا في تاريخ الترجمة العراقية والعربية على حدٍ سواء، لجهة أنها الترجمة العربية الوحيدة لهذا النص المهم؛ لأجل ذلك فازت ترجمته بجائزة الشيخ زايد للترجمة للعام 2015، فضلا عن أنه فاز بجائزة الإبداع العراقي، فرع الدراسات اللسانية، للعام 2017، والكتاب كما نعلم دراسة “لأثر اللّغة في الفكر ولعِلم الرمزيّة” لأوغدن وريتشاردز، ويُعدّ من كلاسيكيّات النقد الجديد، وتمتاز لغته بالصعوبة والكثافة الفكريّة ووفرة المصطلحات، وقد تصدّى الدكتور كيان لهذه الجوانب تصدّياً جادّاً فقدّم نصّاً متيناً وواضحاً، واختتم ترجمته بمَسْرد واسع للمصطلحات وآخر للأعلام. ولعلّ الكتاب يسدّ ثغرة في معرفة القارئ العربيّ لمناهل النقد الأوروبيّ الجديد والنصّوص التي تتمتّع فيه بقيمة تأسيسيّة، وفي العام 2018 أَلحَقه بترجمةَ بَحثِ مارسيل دانيسي الذي حمل عنوان (نظريَّةُ التَّقابُل وترابُطُ اللغةِ والثَّقافَةِ والمعرفة) عن دار الكتاب الجديد في بيروت، والذي يَسرُدُ مَواطنَ التَّطوير ومَظاهرَ التَّعزيز التي لَقِيَتها نظريَّةُ التَّقابُل في العُقود التي تَلَتْ ظهورَ كتاب أوغدِن. 
وقبل أيام قليلة أعلنت دار الكتاب الجديد في بيروت عن صدور عدد من الكتب التي عكف على ترجمتها الدكتور كيان، وتسلّط الضوء على فلسفة (اللغة الدينية)، وقد تضمّن هذا المشروع ترجمة ثلاثة كتب تلتقي في هذا السياق، وهي: 
1 - فلسفة اللغة الدينية: العلامة، والرمز، والقصة، لدان ستايفر. 
2 - اللغة الدينية، لمايكل سكوت. 
3 - اللغة الدينية، دليل لدراسة فلسفة الدين، لستيفن لوكستون. 
وتسعى هذه الترجمات إلى الوقوف على اللغة الدينية في مدونات فلسفة الدين.
 نخلص من خلال هذا الكشف إلى أن المترجمين العراقيين قدّموا ترجمات مهمة، لمدونات لسانية تعود إلى مدارس معرفية مختلفة، لكنها تلتقي في أنها نصوص تأسيسية، تمثّل منعرجا خطيرا في النظرية اللسانية، وأزعم أنهم كانوا متفردين في هذا الباب.