جورنال الأحزان: ماري شيللي ورؤية الجائحة

ثقافة 2020/11/18
...

إيلين هانت بوتنغ

ترجمة: جمال جمعة

غالبًا ما يُستخدم الفن للتعبير عن كيفية إدراك الثقافات المختلفة لحتمية الموت ومحاولة فهم ماذا يحدث بعد أن نموت، مع بعض الاستثناءات، تميل اللوحات الغربية إلى التأمل في حياة الشخص، أو إضفاء الطابع الرومانسي وتجميل لحظة الموت لتجنب صدمة الجمهور: لوحات مثل لوحة كارافاجيو (موت العذراء، 1606) تم حظرها في الكنائس لأنها صورت الموت بشكل واقعي للغاية. لكن في اليابان، ظهر شكل من أشكال الفن يُدعى كوسوزو kusōzu (رسم المراحل التسع لجثة متحللة) تطور بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر، والذي يوضح تحلل جثة بشرية بدقة رسومية تحبس الأنفاس، دقة تفهرس اللحظات الأخيرة من حياة الشخص حتى التفكك الكامل لعظامه، لكن لماذا ترسم صورٌ ذات طبيعة مَقابرية مروعة، وما هي أهميتها الثقافية؟

 
 
 لأسباب واضحة، عندما يتعلق الأمر بالأدب الذي ولد من الأوبئة، يفكّر الناس في بوكاتشيو ودانييل ديفو. ماري شيللي، وهي واحدة من أهم مدوّني مذكرات الطاعون في العصور اللاحقة، غالباً ما يتم إغفالها. مذكراتها قطعة رائعة من كتابة الحياة “وكتابة الموت” وفق شروطهما الخاصة. لكن استجابة شيللي الشخصية للأوبئة “سواء كانت واقعية أو مجازية” أضحت أيضاً الأساس لعملها الثاني العظيم في الخيال العلمي السياسي بعد (فرانكنشتاين): الإنسان الأخير.
تجادل كاتبة الخيال العلمي والناقدة الأدبية جوانا روس بأن هذه الرواية الملفتة ساهمت تقريباً بتشكيل كل رواية خيال علمي وقصة رعب لاحقة عن الأوبئة، والحرب الشاملة، وقيامة الزومبي، والكوارث الأخرى التي صنعها الإنسان. نُشرت الرواية لأول مرة في عام 1826، وتروي قصة مروّعة عن طاعون عالمي ينشأ في حرب في القسطنطينية، عند نهاية القرن الحادي والعشرين. ويبدو أن هذا الطاعون قد محى جميع البشر من على ظهر الكوكب باستثناء إنسان واحد.
لكن شيللي كانت تكتب الكثير عن الماضي بقدر ما تكتب عن المستقبل. يبدو أن رواية (الإنسان الأخير) قد استمدت مساراتها من مذكرات الطاعون المؤثّرة وغيرها من مآسي القدر المتجسدة الأخرى التي احتفظت بها كأرملة في الخامسة والعشرين من عمرها. كانت قد ملأت بالفعل ثلاثة مجلدات من الجورنال، ولكن بعد أن غرق زوجها الشاعر بيرسي بيش شيللي، قبالة شاطئ توسكانا في تموز 1822، توقفت لمدة ثلاثة أشهر. المجلد المحوري، الذي يبدأ في 2 تشرين الثاني 1822، والمعنون بأسى (جورنال الأحزان)، يحتوي على سجل شخصيّ ودقيق حول كيف أنها، منذ أن نشرت (فرانكنشتاين) في سن العشرين، فقدت تقريبًا كل شخص كانت تحبه، سواء كان ذلك عن طريق العدوى، أو الحمى، أو حادث مميت. وهنا طوّرت نوعًا من الطب الروحي، أو وسيلة فلسفية للتعامل مع الطواعين بجميع أنواعها، أحرزتها من خلال عملية الكتابة ذاتها. عبر الانعطاف نحو الباطن، لمواجهة ظلمة أفكارها، استخدمت شيللي مذكراتها لكتابة طريقها للخروج من الوهم الخطر: أنه لا يمكن فعل شيء في مواجهة الكارثة.
افتتحت المجلد الجديد بنقش يتأرجح بين اليأس والأمل: “جورنال الأحزان ــ/ يبدأ في 1822 / لكن بالنسبة لطفلي لا يمكن/ أن ينتهي قريبًا جدًا”. شككت في عزمها على العيش، على الرغم من ارتباطها العميق بابنها الحي الوحيد. تساءلت لماذا يجب أن “أبدأ مرة أخرى؟”. الآن بعد أن أضحت وحيدة ــ “آه، أيّة وحدة!” ــ إنها “بلا صديق” يمكن أن توصل “روحها” إليه بالطريقة نفسها التي كانت تفعلها مع زوجها. بعد وفاته، كانت تتأمّل “أفكاري كنزٌ مختوم لا يمكنني أن استأمنه عند أحد”. لكن مفكرتها الفارغة أومأت لها بالكتابة. “أيتها الورقة البيضاء”، سألتها. “هل ستكونين مصدر ثقتي؟”. بعد بلوغ لغة الروح اللاهوتية، ثم حذفها، تستمر بالتحدث من وجهة نظر “الأنا” بينما أقحمت “أنت” جديدة في ثنايا حوارها الداخلي.
لقرابة عامين جاهدت لإيجاد سلام مع الماضي عبر ملء صفحات “جورنال أحزانها”. لكن تراجيديا أخرى أعادتها إلى الوراء من جديد. في كتابتها بعد وفاة صديقها اللورد بايرون بتلوّث الدم، في عام 1824، وصفت إيطاليا بأنها “قاتلة جميع من أحببتهم وكل سعاداتي”. سماء البحر الأبيض المتوسط الأولى اختطفت بيرسي منها، وسرقت اثنين من أطفالها الصغار بسبب الملاريا والحمى، وأجهضت تلقائياً حملها الأخير فيما كادت تقتلها تقريبًا. “نوبات” مرض غامض حاقت بابنها بيرسي فلورنس مرتين منذ غرق والده. في يناير من عام 1824، عندما تعافى الطفل، شبّهت نفسها بحاصد الآفات، الذي يتحرك بلا هوادة عبر الحقل بمنجله: “أولئك الذين سأبحث عنهم، جعلوني أطير ــ لم تعد لدي أية قوة”.
العودة إلى وطنها جلبت لها بعض الارتياح. في نوع من الحجر الصحي الذاتي، تجنبت المجتمع بسبب الشائعات الخبيثة حول زواجها الصاخب من بيرسي. “حبيسة في غرفة سجني، بلا أصدقاء”، اعترفت لمفكرتها، “عقلي مكتئب مثل هذه السماء البغيضة”. إذا كانت إيطاليا قاتلة لكل ما أحبّته، فإن “حياتها الإنجليزية” كانت دفناً مبكِّراً.
جعل القدر من ماري شيللي الطاعونَ والشخصَ الأخير الذي نجا منه دفعة واحدة. لكن هذه المفارقة المظلمة أعطتها مهمة أدبية جديدة. فبينما كانت تشتغل على عملها الثاني العظيم في الأدب القصصي التأملي، استوثقت من صلة القربى بين الرواية وجورنالها في مايو 1824: “الإنسان الأخير! أجل، لعله ينبغي عليّ أن أصف مشاعر الكائن المستوحد، وأشعر بنفسي كآخر آثار ذلك العِرق الأثير”. في الرواية، تُجَندِر الطاعون على أنه أنثى: إذا كانت ماري شيللي هي آخر امرأة، فالطاعون سيكون مثلها بلا ريب. من خلال توحيد ذاتها مع الطاعون في جورنالها الشخصيّ وفي (الإنسان الأخير) واجهت شيللي الحقيقة الصارخة المتمثلة في أن الجنس البشري هو خالق كوارثه الخاصة، حتى تلك التي تبدو طبيعية بحتة أو خارجة عن سيطرتنا. كما يذكّرنا العلماءُ يوميًا الآن، فإن السلوك البشري الجماعي إما أن يزيد أو يسطِّح منحنى معدل الإصابات بـ(كوفيد-19). شيللي أبصرت بوضوح بأننا نحن أسّ المشكلة خلف هذا الوباء والحل المحتمل له على حد سواء. 
يمكن القول أن الكوارث قد حددت مسار شيللي ككاتبة للخيال التأمّلي في المقام الأول. عندما كانت مراهقة، كتبت (فرانكشتاين) خلال سنوات بلا صيف أعقبت ثوران بركان جبل تامبورا في عام 1815، حيث أدى الرماد البركاني والغاز إلى تعتيم السماء عبر عدة قارات. تلت ذلك سلسلة من كوارث الصحة العامة. نشأت أول جائحة كوليرا حديثة في البنغال واجتاحت الغرب. عند قراءة صحف لندن، كانت شيللي ستعرف بانتشار الكوليرا إلى حدود أوروبا الشرقية مع حلول ايلول 1823. كانت آنذاك قد عادت لتوها من إيطاليا مع طفلها الوحيد المتبقي على قيد الحياة. من بين ضحايا الوباء في وقت لاحق كان شقيق شيللي، الكاتب ويليام غودوين الابن، الذي توفي في عام 1832. بحلول ذلك الوقت بات من الواضح منذ فترة طويلة أن قلقها الفني كان دافعه الخوف من نهاية العالم.
 
عبّرت شيللي عن هذا الخوف في رواياتها كما فعلت في مدوّنة حياتها. خطر نهاية العالم كان ينبغي التصدي له داخلياً، كأزمة نفسية، وخارجياً، كحدثٍ سياسي عالمي محتمل. يخشى العالِم فيكتور فرانكنشتاين من أنّ تناسل مخلوقه الاصطناعي مع رفيقته الأنثى قد يؤدي إلى نوعٍ منافس قادر على تدمير الجنس البشري برمته. في رواية (الإنسان الأخير) يتساءل البطل ليونيل فيرني كيف يتدبّر الإنسان أمره حين يكون وحيداً في روما بعدما تبين أن الجائحة قد أبادت الجميع.
احتفظت شيللي بجورنال الطاعون من أجل محاربة القَدَريّة. وعلى الرغم من المآسي التي أصابتها، فقد ثابرت على كتابة رواية ما بعد نهاية العالم عن رجل تمكّن من النجاة من الجائحة، من دون أن تمسّ إنسانيته. يحافظ “فيرني”، شخصيتها الأدبية المجسَّدة، على إحساسه بالتضامن مع الإنسانية من خلال كتابة جورناله الشخصي للطاعون: “تاريخ الإنسان الأخير”، الذي يأمل أن يجده شخص آخر، ناجٍ آخر، ويتعلم منه يوماً ما. في نهاية سرده، يغادر “فيرني” إيطاليا على متن سفينة ــ برفقة كلبه فقط وأعمال شكسبير وهوميروس ــ بحثًا عن ناجين آخرين. نحن أولئك الناجين: الناس الذين يعيشون الآن في عصر الأوبئة، والذين حان وقتهم لكتابة قصص الأمل وسط حزن عميق لا يوصف.
في سن السابعة والثلاثين، قامت شيللي بتقييم جورنالاتها. “لقد صدمتني”، لاحظت في ديسمبر 1834، “يا لها من صورة منقوصة للغاية ... هذه الصفحات المتشكّية التي احتملتني ــ وهذا ينجم عن كونها سجلاً لمشاعري، وليس لخيالي”. على الرغم من أنها اعتقدت بأن “لا أحد أبداً [سوف] يرى” يومياتها، إلا أن بعض المقاطع منها نُشرت في الواقع بعد وفاتها بفترة وجيزة بسرطان الدماغ عام 1851. والبقية تنتظر صدور الطبعة العلمية لجورنالاتها، التي حققتها “باولا ر. فيلدمان” و”دايانا سكوت كيلفرت”، والتي سيتم نشرها في عام 1987. ومع ذلك، كان جمهور القراء يتمتع دائمًا بإمكانية النفاذ إلى مشاعر شيللي الأعمق التي فَلتَرتها عبر كتاباتها الخيالية. ربما كان الشيء الوحيد الذي لم تره هو أن جورنالاتها يمكن أن تُقرأ كشكل من أشكال الفلسفة الوجودية: حكاية امرأة وحيدة عاشت في عتمة، من دون أن تفقد قوّة الفن.
 
* إيلين هانت بوتنغ: أستاذة العلوم السياسية بجامعة نوتردام، ومؤلفة كتاب (الحياة الاصطناعية بعد فرانكنشتاين).
 
The Times Literary Supplement Limited