بين تداوليَّة اللغة العربيَّة والألمانيَّة

ثقافة 2020/12/21
...

ذو الفقار حسن
 
بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، أود أن أتطرق إلى قضية جدلية بشأن هذه اللغة، تتمثل بمدى فاعليتها في التواصل والتحديث الثقافي.  ومن ثم ما تنطوي عليه أيضا من قدسية مزعومة ألصقها بها البعض جزافا، بسبب كونها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم!.
أفتتح مقالتي هذه بدعوة الأب الروحي الأستاذ الدكتور علي الوردي، إذ دعا في كتابه ((أسطورة الأدب الرفيع)) إلى قضيتين مهمتين جدا، تتمثل الأولى منهما بإعادة النظر في أسلوبية الخطاب - ذي الصبغة المتكلفة - عند أكاديميي وأدباء العربية، والثانية هي قضية خطيرة جدا تتمثل بتيسير النحو العربي. ولكي نصل إلى حكم عادل بشأن هذه الدعوة ينبغي أن نعمل مقارنة بين العربية ولغة أخرى على الصعيدين اللساني والثقافي. سأقدم لكم اليوم ملخصا عن دراسة مكثفة قمت بها منذ سنة تقريبا، أقارن فيها بين اللغة العربية والألمانية، وهذا سينفعنا هنا، لمعرفة مدى فاعلية ودقة ما ذهب إليه استاذنا الدكتور الوردي في دعوته التي أثارت جدلا لم يتوقف حتى اللحظة. 
في البدء وعلى سبيل الاختصار سأقصر مقالتي هنا، على: 
1 - أنواع الجمل في كلا اللغتين «der satz». بعدما قمت بتقصي الجمل الألمانية تبيّن لي، أنه لا توجد جملة في اللغة الألمانية تخلو من فعل، ومن ثم لا وجود لشيء اسمه “جملة اسمية”؛ أي بخلاف اللغة العربية. بيدَ أني في إحدى المرات، شاهدت مقطعا على اليوتيوب لأستاذ ألماني مهتم بالاستشراق اسمه Beter Hein يرى، أن الألماني يستعمل جملة فعلية تقوم مقام الجملة الاسمية في العربية، وذلك عندما يسوق لنا المتكلم الألماني جملة تحتوي على أحد الأفعال المساعدة في الألمانية (وهنا لا تأتي إلّا مصرَّفة)، التي هي كل من: Haben, sein.  على سبيل المثال : Ich bin Alli»اسمي علي”، أو Ich habe hunger «عندي جوع”. وهذا الرأي فيه نظر ولست متأكدا من مدى صحة المقارنة التي ذهب إليها الأستاذ؛ لأنك عندما تقول في اللغة الالمانية: لدي جوع، سيفهم المتلقي، أنك تشعر بالجوع الآن. ومن ثم برأيي تكون هذه الجملة الألمانية المؤلفة من فعل مساعد واسم قد اشتملت على العنصرين الوجوديين للفعل، وهما كل من الحدث والزمن! قد يكون كلامي هذا مضحكا لباحث مختص في اللغة العربية، ولكن أود أن ألفت عنايته لنظرية النسبية اللغوية لسابير وورف. ولولا عدم مناسبة السياق لتطرقتُ لمفاهيم الحدث والحركة والزمن في اللغة الألمانية، التي تناقض كل ما ألفناه في العربية.
2 - أداة التعريف عند كل منهما»der Artikl».  في اللغة الألمانية توجد ثلاث أدوات للتعريف بخلاف العربية، وهي كل من: der, die das.  وقد صدمت هنا جدا عندما عرفت، أنَّ اللغة الألمانية الفصحى “Hochdeutsch»  تصرف هذه الأدوات في كل الأحوال الإعرابية (رفع، ونصب، وجر، واضافة)، وأنَّ كل اسم في الالمانية له أداته الخاصة، على سبيل المثال عادة ما تستخدم der للاسم المذكر، فإذا ما أرادنا أن نترجم لفظة “الطاولة” للألمانية نقول der Tisch.  الغريب هنا أٔن الطاولة عند الألمان تنتمي للتذكير männlich وليس  للتأنيث weiblich...!  ما يزعجني حقا، أن أجد بعض الأساتذة العرب يذهبون إلى أن die تأخذ اسم مؤنث، وdas  محايد ((ولا اعلم ماذا يقصدون بالمحايد في اللغة الالمانية!)) و der يأخذ اسما مذكرا؛ لكنهم لا يستطيعون أن يخبرونا لماذا لفظة فتاة في الألمانية تأخذ الأداة das  وهي das   Mädchen.  أما على صعيد تغير الحالة اللفظية والكتابية لهذه الأدوات عند صياغة جملة خاضعة لقواعد النحو الألماني، فهذا حديث يطول، ولكنني سأختصر ذلك بمثال واحد، على سبيل المثال تترجم هذه الجملة ((أريد أن أذهب إلى محطة المترو)) إلى! Ich möchte zum Bahnhof gehen.  إذ إن أداة التعريف لمحطة المترو هي der  ولكنها تصرفت في حال الجر إلى dem ومن ثم حذفتا de وأضيفت m التي تقع في نهاية الارتيكل المصرف إلى حرف الجر zu (إلى) فاصبحت zum. وهذه المشكلة التداولية تدخل أيضا تحت ما يسمى بالنسبية اللغوية، التي تتجلى مفاهيمها عند متعلمي اللغة الثانية، الذين لم يألفوا مثل هكذا أدوات وقواعد نحوية معقدة.
3 - حروف الجر «die Präpositionen». من الجدير بالذكر أن مقارنة حروف الجر في العربية مع الألمانية تصلح أن تكون بحثا مستقلا بذاته، لما في حروف الجر الألمانية من دلالات بلاغية تداولية دقيقة جدا، وسأكتفي هنا بالإشارة إلى أن حرف الجر في الألمانية بخلاف العربية يأخذ في بعض السياقات التواصلية مفعولا به»der Akkusativ»  وليس اسما مجرورا، على سبيل المثال تترجم هذه الجملة: أريد أن أؤجر الغرفة للطالب، إلى Ich will das Zimmer an den student vermeiten. هنا أخذ حرف الجر an مفعولا به باعتبار أن أداة التعريف الخاصة بلفظة الطالب هي der وقد تصرفت في حال Akkusativ إلى den.  وهذا شائع جدا في اللغة الالمانية.
4 - عدد المفردات في كلا اللغتين. الألمانية بخلاف العربية تحتوي على مفردات قليلة جدا مقارنة بالعربية، ولتعويض ذلك اتسمت هذه اللغة بالتركيب، أي تجمع لفظتين أو أكثر لتشكل مفردة ذات معنى جديد، على سبيل المثال لفظة مواطن في الألمانية تترجم إلى Staatsangehöriger، حيث إن لفظة Staat تعني دولة، ولفظة angehöriger  قريب، نتج عن اجتماعهما لفظة جديدة لا علاقة لها بمعنى هاتين اللفظتين!. وانطلاقا مما سبق أستطيع أن أقول من منظور دخيل ثقافي أو متعلم للغة، إن الالمانية تتسم بالميوعة وعدم المنطقية، وانها لا شيء مقارنة بالعربية التي تتسم بالخزين الهائل للمفردات والقواعد النحوية المنظمة نوعا ما، زد على ذلك رقة وانسيابية حروفها في اللفظ مقارنة بالألمانية الباردة والمحبطة جدا للروح الرومانسية لمتكلم دخيل مثلي؛ بيد أن كلامي هذا يناقضه الانتاج المعرفي الهائل الذي خرج من رحم اللغة الالمانية، كالفلسفة، والفيزياء، والأدب. ولو أن هذه اللغة يصدق عليها حكمي كعربي، لما انتجت اللغة الألمانية كل هذه المفاهيم.