الكرملي في ذكراه الـ 74.. ثراء الريادة الثقافيّة وفرادة الدور

ثقافة 2021/01/06
...

 حسين محمد عجيل

من خلال منجزات ثورة تقنيات التواصل المعلوماتيّ اللحظيّ الذي يشهده العالم، وما توفره من فرص الاطلاع على الصور والمجلات والصحف والكتب القديمة والوثائق والمخطوطات، وتداولها على نطاق واسع وغير مسبوق في تاريخ بني الإنسان، أخذ يتضح لدى الباحثين والدارسين، ولدى عموم المثقفين والقرّاء في بلادنا، مدى عمق الإسهامة الثقافيّة لجيل ذهبيّ من الرواد العراقيّين الذين صنعوا نهضة البلاد الثقافيّة منذ نهايات القرن التاسع عشر، ويقف في صدارة هذا الجيل العلّامة الأب أنستاس ماري الكرملي (1866 - 1947)، الذي يشهد اليوم الخميس الذكرى السنوية الرابعة والسبعين لوفاته، وهو شخصيّة رائدة فذة، امتاز بثراء إسهامته وفرادتها وتنوعها، وبحيوية دوره في الانتقال بالبلاد ثقافيّاً من طور إلى طور.

26 حرفا من (المساعد) تتنظر الطبع
ومع اتساع الاستفادة من هذه الثورة التقنية، في المجتمع العراقيّ، سيتراكم تقدير جهد هذا العالم البغداديّ الجليل لدى نخب الدارسين والمثقّفين والقرّاء، حتّى يفرضوا رؤيتهم في النهاية على المؤسسات الحكوميّة المعنيّة بالثقافة، المتجاهل بعضُها دورَه اليوم، فيُنشر معجمه (المساعد) كاملاً، الذي يقع في خمسة أجزاء (3198 صفحة)، وهو مشروع أفنى فيه عمره،​إذ ابتدأ بتصنيفه سنة 1883، واستمرّ بالعمل فيه إلى أواخر أيّامه، بعد أن طُبع منه حرفان فقط في مطلع سبعينيّات القرن الماضي.
ويُعاد طبع مجلّته الشهيرة (لغة العرب) التي صدرت ببغداد سنة 1911 وتوقّفت مؤقّتاً بين سنة 1914 و1925، ثمّ نهائيّاً سنة 1931، وتعدّ المجلّة الرائدة في التعريف بالعراق في المنطقة العربيّة والعالم، بعد أن طُبع منها في مطلع سبعينيّات القرن المنصرم أيضاً مجلّدان فقط من أصل تسعة، وتعثّر هذا المشروع في بداياته، كما حصل تماماً مع طبع معجمه (المساعد)، وتُجمع مقالاته في كتب متسلسلة، ويُطبع ما لم يُنشر من سائر كتبه الخطيّة، وكنوز مراسلاته الأدبيّة، وهي ثروة فكريّة هائلة في قيمتها وحجمها وشمولها معظم الفاعلين آنذاك في الحركة الثقافيّة داخل العراق وخارجه، وبإمكانها وحدها أن تعيد الكشف عن أدوار مجهولة نهض بها في دوائر اهتماماته المتعدّدة.
 
إعادة الحياة 
لمجلس الجمعة
ويُطلق اسمه على إحدى ساحات بغداد كما تفعل الأمم الحيّة تجاه كبار رموزها، ويُقام له تمثال في تلك الساحة أو أمام كنيسة اللاتين وسط بغداد حيث عاش سحابة عمره في دير الآباء الكرمليّين، ونشط وألّف وصال وجال في ميادين الثقافة كلّها حتّى دُفن هناك، وتُعاد الحياة لتلك الكنيسة العريقة التي افتتحت في عام ولادته وشهدت ظهور مجلّة (لغة العرب)، كما شهدت تحوّلات حياته وأطوارها جميعا، بعدما أصابها ما أصابها من تصدع في قبّتها، وتداعٍ عامٍّ في هيكلها، وتجاوزَ أصحاب المحلّات التجاريّة والباعة الجوّالون على ساحاتها وفنائها، يخزنون فيها بضاعتهم.
ويُستعاد مجلسه الثقافيّ الشهير الذي كان يُعقد فيها صبيحة كلّ يوم جمعة على امتداد العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، بحضور نخبة مثقّفي بغداد من كلّ أطياف الشعب وملله ومذاهبه وأعراقه، فضلاً عن زوّار المدينة من شخصيّات ثقافيّة عربيّة وأجنبيّة، وهو مجلس كان الكرملي يحظر فيه الخوض بأمرين لا غير، هما الدين والسياسة، كي لا يتسبّبا في إثارة خلاف ما وتسميم الأجواء التي أرادها مثاليّةً وخالصةً للأدب والثقافة، ليكون هذا المجلس المستعاد موئلاً تنويريّاً للكتّاب والمفكّرين والمشتغلين والمهتمّين ثقافيّاً بما اشتغل به الكرمليّ وجيله واهتمّوا، ويعزّز دور شارع المتنبي وسوق السراي وسط بغداد القديمة، ويصبح مثابةً حيويّةً للتعايش الإيجابيّ وبثّ روح التسامح والأخوّة بين العراقيّين، في وقت تسعى فيها جهات وأطراف داخليّة وخارجيّة مريبة الدوافع والمقاصد، إلى بثّ روح التطرّف والتعصّب والكراهيّة بينهم.
 
ريادات أمام الدرس الأكاديميّ
إنّه لمن المؤسف حقّاً أن تتجاهل بعض المؤسسات الحكوميّة المعنيّة بالثقافة، الكثيرَ من المناسبات الحضاريّة والثقافيّة في بلادنا، وتُقصي من ذاكرة الناس- من حيث تدري أو لا تدري- ما يقع في صميم واجباتها أن تحييه، وهي مناسبات تتمنّى دول في المحيط أن يكون لها جزءٌ ضئيلٌ ممّا تنطوي عليه من عراقة لتجعل منه حديث الدنيا كلّها، من بينها مناسبات في تاريخ البلاد القديم والوسيط والحديث والمعاصر، ومنها ما يخصّ الكرملي ورصفاءه من ذلك الجيل الذهبيّ، ولكن حين تفرض الرؤيةُ الوطنيّةُ الجامعةُ شروطها على سائر الجهات الحكوميّة المعنيّة بالثقافة، وتُحاسبها على إخلالها بأحد أركانها، ستدرج مؤسّسات الدولة العراقيّة مناسبات الاحتفاء برموز هذه البلاد في أولويّات جداول عملها، وستضعهم حيث يستحقّون من مكانة سامية، تحقّقت بجهود ذاتيّة قهرت كلّ الظروف والعقبات والتحديات التي واجهت معظمهم قبل أن تكون للعراق دولة حديثة، وستتناول الرسائل والأطاريح الجامعيّة ريادات الكرملي وأدواره الثقافيّة المتعدّدة: رائداً في البحث اللغويّ الحديث، ورائداً في الإيمان بجدارة اللغة العربيّة والدفاع عنها ببسالة أيّام محنتها في نهايات سنيّ الحكم التركيّ، ومبشّراً جليلاً بعبقريّتها وغناها وقدرتها على التعبير عن روح العصر بعلومه وفلسفته وآدابه، لو عرف أبناؤها قيمتها وسعوا في اتقانها وتحسين طرق تعلّمها وتعليمها، وداعيةً عنيداً لضرورات إعادة الحياة إليها، وإغنائها بالاشتغال المعجميّ برؤى جديدة، ورائداً في الصحافة الثقافيّة العامّة، كاتباً فذّاً في أبرز الدوريّات العربيّة والعالميّة وأوسعها انتشاراً، ومنشئاً للصحف والمجلّات، ومحرّراً لها، وتقف في صدارتها مجلّة (لغة العرب) التي ظهرت في وقت كان فيه الأتراك يحاربون هذه اللغة وتطلّعات أهلها، ورائداً في التدوين التاريخيّ، لتاريخ البلاد وحواضرها وأفذاذها على كلّ صعيد، ورائداً في الترجمة المتبادلة بين العربيّة ولغات العالم المتعدّدة القديمة والحديثة التي يعرف أو يلمّ بنحو عشرٍ منها، ورائداً في تحقيق التراث العربيّ، واجتراح أسسه، ونقد ما يصدر منه بجهود العرب والمستشرقين، ورائداً في جمع المخطوطات والوثائق وحفظها وتصنيفها وفهرستها، ورائداً في جمع التراث الشعبيّ وتسجيله من أفواه الناس، ودراسته والإفادة منه في أبحاثه وكشوفاته اللغويّة، ورائداً ومؤسّساً لامعاً في العمل المجمعيّ في العراق والدول العربيّة والعالم، فكان من مؤسّسي أوّل مجمع لغويّ عراقيّ في العشرينيّات من القرن المنقضي، ذاك الذي لم يقدّر له أن يستمرّ، وكان من بين الصفوة الفكريّة التي أسّست صروح مجمعي دمشق والقاهرة اللغويَّيْن، وأقامتهما على أسس راسخة في الثلث الأوّل من القرن العشرين، ورائداً كبيراً في رعاية المواهب الثقافيّة الفذّة في العراق والعالم العربيّ، بل رافعة عملاقة لهذه المواهب، والتعريف بها، وتمكينها، وحثّها على استكمال شروط الإبداع في اختصاصاتها، وتوفير ما أمكنه من سبل التقدّم لها، ورائداً في التعريف بالبلاد وتنشيط صلات العراقيّين الثقافيّة بالمحيط العربيّ والعالميّ، صلاتٍ تتوفّر على جانب عظيم من من الحيويّة والتنوّع والنديّة الكاشفة عن الإصالة.
 
ضرورات إحياء اليوبيل الذهبيّ لرحيله
في يوم اللغة العربيّة العالميّ لسنة 2013، الذي تحتفي به منظمة اليونسكو يوم 18 كانون الأوّل من كلّ عام، كنت قد كتبت في جريدة (الصباح الجديد) البغداديّة مقالةً بعنوان «أنستاس الكرملي، الذكرى 150 لولادته ليست بعيدة»، وجّهتُ فيها دعوةً مبكّرةً لتنظيم احتفال كبير يليق ببغداد والعراق وبالقامة الكرمليّة، بمناسبة مرور 150 عاما على ولادة أنستاس الكرملي التي كانت ستحلّ بعد سنتين ونصف من تاريخ نشر المقالة (أي يوم 5 آب 2016)، على غرار احتفال نخبة مثقّفي بغداد وحكومتها بيوبيل الكرمليّ الذهبيّ سنة 1928 بمهرجان كبير وفريد وغير مسبوق بمناسبة مرور 50 عاما على اشتغاله باللغة العربيّة، رعاه رئيس الوزراء آنذاك عبد المحسن السعدون، ولكنّ دعوتي هذه وأمثالها لم تلقَ- من أسفٍ- استجابةً تُذكر من مؤسّسات الدولة الثقافيّة، فضاعت تلك المناسبة كما تضيع عشرات غيرها، وما كان أمامي سوى أن أحيي تلك المناسبة بمقالة طويلة بعنوان «أنستاس الكرملي: بشارة نهضة، وريادة تنوير»، خصّصت لها جريدة (طريق الشعب) البغداديّة يوم 6 آب 2016 صفحتين كاملتين.
واليوم، وإذ تقترب ذكرى مرور 75 عاماً على رحيل أنستاس الكرملي، التي تصادف يوم 7 كانون الثاني من السنة المقبلة (2022)، أدعو مؤسّسات الدولة الثقافيّة، والمنظمات المجتمعيّة والاتحادات والنقابات المعنيّة بالثقافة، لإحياء ذكرى اليوبيل الماسيّ لرحيل هذا العّلامة الجليل، وهي مناسبة تحرص الدول العريقة والمدن الكبرى والشعوب الحيّة على إحياء ذكرى ولادات أو وفيات رموزها فيها، فما أحرى بغداد بإحياء هذه الذكرى، بكلّ ما تحمله المدينة العريقة من دلالات رمزية راهنا، وما يقدّمه الاحتفاء بشخصيّة تحمل هي الأخرى دلالات رمزيّة متعدّدة، من رسائل إيجابيّة باتجاهات شتّى في شرقنا العربيّ الذي يراد له أن يفرَّغ من مسيحيّيه، هذا المكوّن الأصيل الذي قدّم لبلدانه عطاءً مضاعفاً مرّاتٍ بالقياس إلى حجمه، فضلا عن أنّها المدينة التي ولد فيها الكرملي، وفيها مات ودفن، وهي أيضاً المدينة التي عشقها وكتب عنها وفيها كلّ تراثه الثرّ.
 
فيلم وثائقيّ ومهرجان 
دوليّ ومتحف
إنّ حياةً عريضةً تتسم بالثراء والريادة، كحياة الكرمليّ، تستحق إنتاج فيلم وثائقيّ يتتبّع محطّاتها الرئيسة منذ طفولته البغداديّة، مروراً بسلسلة رحلاته الطويلة لاستكمال دراساته في لبنان (حيث أصل أسرته) وبلجيكا وفرنسا، ثمّ عودته إلى مدينته العريقة ليمارس التعليم فيها، وينحت في ذلك الزمن المبكّر (قبيل نهاية القرن التاسع عشر) سبلاً واسعةً للاجتراح الرياديّ في مجالات عدّة تبدأ باللغة وعلومها، وتمرّ بالتاريخ واللاهوت والتراث الشعبيّ، ولا تنتهي بالترجمة والصحافة والأدب، وهي جهود أهّلته ليكون عضواً في مجامع عربيّة ودوليّة عدّة كانت له إسهامات مشهودة فيها، وتحمل العناء في رحلات عديدة لأمّهات المدن العربيّة والأوربيّة، محاضراً و مشاركاً فاعلاً في مباحث حرص على أن تكون غير مطروقة.
وهل من الكثير على شخصيّة بهذا القدر من الفذاذة والأهميّة، أن تتبنّى جهة ثقافيّة رسميّة تنظيم مهرجان كبير احتفاءً بالذكرى الماسيّة لرحيلها، تُدعى له شخصيات عراقيّة وعربيّة وعالميّة، وتكلّف بإعداد بحوث ودراسات عن مجالات رياداته المتنوّعة، وكم سيكون الأمر بديعاً إذا جرى تخصيص جزء من مبنى كنيسة اللاتين متحفةً (كما يفضّل الكرمليّ أن يسمّي المتحف) تضمّ بعض المتبقّي من مقتنيات العلّامة الكبير الشخصيّة وكتبه الخطيّة، ونماذجَ من مراسلاته وصوره والنياشين التي حصل عليها، وما حُفظ من ملابسه وأقلامه.
وليس طموحاً بعيداً، فيما أرى، أن ندعو الجهات المعنيّة بالثقافة لتكليف كاتب سيناريو على مستوى عالٍ من الحرفيّة، لإعداد فيلم أو مسلسل يتناول حياةً عريضةً وباذخةً قضاها هذا الرجل في خدمة بلاده والرقيّ بها، مستثمراً كلّ وقته، ومستنفراً قدراته وإمكاناته وصِلاته لتعزيز التوجهات الحضاريّة النامية آنذاك، ودفعها لتتبلور بالانفتاح على العالم من حوله، لتكوين وسط ثقافيّ متفتّح ومنتمٍ لحضارته العريقة في آن، وهو ما كان يرى أنه سينتج رأياً عامّاً سينجم عنه بالتأكيد دولة تتقدّم باستمرار.