كيف تنبّأ دوستويفسكي بأميركا ترامب؟

ثقافة 2021/01/09
...

آني كوكوبوبو
ترجمة: جمال جمعة
كأستاذة للأدب الروسي أدرك أنها ليست علامة جيدة أبداً عندما تشابه الحياة الواقعية إحدى روايات فيودور دوستويفسكي.
إن حملة دونالد ترامب الرئاسية، بخطابها الغوغائي وتدفق فضائحها المستمر، تستدعي إلى الذهن أكثر روايات دوستويفسكي سياسيةً (الشياطين)، المكتوبة عام 1872. وفيها أراد الكاتب تحذير القراء من القوة التدميرية للديماغوجية والخطاب المنفلت، ورسائله التحذيرية (المتأثرة إلى حد كبير بالفوضى السياسية الروسية في القرن التاسع عشر) يتردد صداها في مناخنا السياسي الحالي.
ولكي يُظهر لقرائه فقط كيف يمكن أن تسوء الأمور إذا لم ينتبهوا، ربط دوستويفسكي كابوسه السياسيّ بالنزوات المتقلبة وانهيار الكياسة.
شغف بالدمار
كان دوستويفسكي مدمنًا على الصحف مثل إدمان البعض منا على وسائل التواصل الاجتماعي، وغالبًا ما كان يلتقط الأزمات والعنف من العناوين الرئيسة مباشرةً، ويعيد تشكيلها في رواياته.
كانت روسيا خلال ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر (ذروة مسيرة المؤلف) تعاني من عدم استقرار اقتصادي واجتماعي هائل. «مرسوم التحرير»* الذي أصدره القيصر ألكسندر الثاني حرّر العبيد الفلاحين الروس من شكل من أشكال العبودية الطبقية، بينما هدفت الإصلاحات العظيمة اللاحقة إلى إعادة هيكلة الفروع الإدارية والقضائية، فضلاً عن الجيش وقانون الضرائب ونظام التعليم. كان من المفترض أن تعمل الإصلاحات على تحديث البلاد من خلال سحبها خارج نظام الممتلكات العقارية والامتيازات القانونية شبه الطبقي. لكنها لم تفعل الكثير لتحسين الوضع الاقتصادي للفلاحين.
لقد كان انعكاسًا للمشهد السياسي الحالي في أميركا. فبينما يوجد هنا اليوم تذمّر يغلي على نار هادئة من قبل اليمين، كان اليساريون في روسيا القرن التاسع عشر غاضبين. كانوا غاضبين من الإصلاحات لأنها لم تمض بعيداً بما فيه الكفاية وفقدوا الأمل في قدرة الحكومة على إحداث تغيير جاد.
كانت إحدى الأفكار الموحِّدة الوحيدة بين الأجنحة السياسية اليسارية الأكثر راديكالية في تلك الفترة هي الاعتقاد بوجوب القضاء على النظام القيصري. شخصيات عامة مهمة، مثل الفوضوي الروسي ميخائيل باكونين، أيدت تدمير الوضع الراهن كغاية أعظم من كل الأيديولوجيات. كما حضّ باكونين على نحو معروف: “إن شغف الدمار هو شغفٌ خلّاق أيضاً”.
قناعة باكونين بأن العالم الجديد لا يمكن أن ينهض إلا من رماد القيصرية تم وضعه بالفعل موضع التنفيذ من قبل تلميذه السابق سيرجي نيتشيف، الذي كان مصدر إلهام دوستويفسكي لشخصية بيوتر فيرخوفنسكي، بطل رواية «الشياطين».
 
منحدر زلق
في عام 1869، دبّر نيتشيف مقتل طالب شاب، وهو حدث صدم وأثار غضب دوستويفسكي لدرجة أنه أصبح أساس “الشياطين”.
تبدأ الرواية في منطقة منعزلة إقليمية مملّة يقطنها أشخاص في منتصف العمر وشبان ليبراليون غير فعالين، وجميعهم منغمسون في حياتهم الرومانسية. يصل بيوتر فيرخوفينسكي ويقنع العديد من هذه الشخصيات المتشابهة بالانضمام إلى عصبته الثورية السرّية. المشاعر تتأجج والنظام المحلي يتزعزع إذ تدخل البلدة في دوّامة انحدار تنتهي بحرائق متعمدة وجرائم قتل عديدة.
ما هو أكثر صلة بوقتنا الحاضر في «الشياطين» ليس الأيديولوجيين بل العداء للمثقفين والطبيعة التي تحركها النزوات في تمرد بيوتر. في بيوتر، خلق دوستويفسكي ديماغوجيًا وعدميًا خالصًا، شخصية سياسية تخاطب رغبات الناس الدنيئة. وتحت تأثيره، يفقد سكان البلدة كل تحكّم في الاندفاعات** ويصبحون متهورين، يتمردون على كل قواعد اللياقة من أجل الضحك لا غير. في إحدى المرات يقومون بتدنيس أيقونة مقدسة؛ وفي مرة أخرى يجتمعون ببهجة حول جسد شخص انتحر ويأكلون الطعام الذي خلّفه وراءه.
إذا كان مزاحهم الثقيل، وشتائمهم، وشغبهم يبدو غير مؤذٍ، فإن تدهور مستوى الخطاب العام كان بمثابة نذير لأعمال العنف والتدمير في خاتمة الرواية. لم يَرَ دوستويفسكي، وهو كاتب سيكولوجي بارع، أن العنف ينفصل عن السلوك البشري الطبيعي على الإطلاق. ما هو مؤثر أكثر في أعماله هو مدى اقتراب الأشخاص العاديين من القيام بأشياء مروّعة بشكل غير عادي.
في «الشياطين»، تتصاعد التوترات السردية بطريقة تدريجية مقصودة. فما يبدأ بقلّة أدب بسيطة يصبح فضيحة، وإحراقاً، وقتلاً، وانتحارًا. يقول دوستويفسكي بشكل أساسيّ إن الأفعال الإجرامية متجذرة في الطغيان الاجتماعي. السلوك الهمجي ييسّر كبش الفداء، وتجريد الصفة الإنسانية، والعنف في نهاية 
المطاف.
 
«اِجعلْ أميركا عظيمة»
تستحضر حملة دونالد ترامب غير التقليدية للرئاسة رواية دوستويفسكي بقوة. بصرف النظر عن مواقفه المؤيدة للسلاح والمناهضة للهجرة، لا يقدّم ترامب العديد من الخطط السياسية الملموسة. عند تقييمنا لما حفّز 14 مليون أميركي للتصويت له في الانتخابات التمهيدية، علينا أن نأخذ في نظر الاعتبار بحثاً جديداً يظهر أن ترشيحه ارتكز أساساً على جاذبية العاطفة، أكثر مما هو على الإيديولوجيا أو الاقتصاد. ثمة مشاعر معادية للمؤسسة جديرة بالملاحظة بين مؤيديه؛ الكثير منهم بيض ساخطون، في منتصف العمر، يعتقدون أن المؤسسات الأميركية لا تعمل لمصلحتهم.
وبينما يتم تأطير شعار حملته سيئ السمعة «اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» بطريقة إيجابية، فإنها في الواقع تقدم نسخة من التدمير الخلّاق لباكونين. إنها ترمز إلى تطهير المؤسسة، وإعادة خلق نسخة مشوبة بالحنين إلى بعض ما هو مفقود من أميركا الماضي. لقد رأينا بالفعل هذا الدافع المدمر في شكله الأكثر «نيتشيفيّة» وغوغائية في حشود ترامب، إذ تعرض العديد من الأشخاص للاعتداءات.
ثمة مظهر آخر لشعبية ترامب يربطه بـ «شياطين» دوستويفسكي. يجسد ترامب، بالطريقة التي يتبنى فيها نفسه، التنصل التام من التحكّم في الاندفاع الذي نراه في الرواية. على العكس من معظم المرشحين السياسيين، فهو يتحدث بشكل مرتجل، وفي الوقت ذاته يعكس ويؤجج غضب وتشاؤم أنصاره.
على سبيل المثال، قال إنه أراد «ضرب» بعض المتحدثين الذين انتقدوه في المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي. في كلماته ثمة غضب، وحاجة للاستفزاز والاستخفاف عميقة الجذور. أنصاره يشعرون بالقوة من خلال ذلك. من دون موازنة سياساته، فإنهم ينجذبون بشكل عميق إلى مشهد ترشيحه، مثل سكان البلدة الذين اتّبعوا بيوتر فيرخوفينسكي في «الشياطين» ويبتهجون بالأقاويل والفضائح التي يخلقها.
من أجل إكمال التماثلات، سيكون علينا أن ننتقل إلى خاتمة الرواية، والتي يمكن أن يكون لها أثر واقعي. الفظاظة المبدئية تفسح المجال إلى رؤية فوضوية للتدمير الخلّاق؛ يموت الكثيرون أو يفقدون عقولهم بسبب مكائد بيوتر. في مرحلة ما، ودون تفكير على ما يبدو، تسحق الحشود شخصية أنثوية حتى الموت لأنهم يعتقدون زوراً أنها هي المسؤولة عن العنف في البلدة.
عندما يمارس الجمهور في حشود ترامب العنف اللفظي عبر الصراخ: «اسجنها» و «اقتلها»!، أو حينما يدعو دونالد ترامب (سواء عن قصد أو عن غير قصد) إلى عنف التعديل الثاني [حقّ حمل السلاح الذي عارضته منافسته هيلاري كلينتون ودعا ترامب مؤيديه إلى فعل شيء ضدها]، أتساءل عما إذا كانوا قريبين بشكل خطير من العنف البدائي للـ«الشياطين».
[آني كوكوبوبو: بروفيسورة مساعدة في الأدب الروسي، جامعة كانساس]
 
 
* مرسوم التحرير عام 1861، أو إصلاح الفلاحين: أوّل وأهمّ الإصلاحات الليبرالية في عهد ألكسندرالثاني قيصر روسيا. أنهى الإصلاح نظام القَنانة التي عانى منها الفلاحون الروس، كما منح الأقنان حريتهم ومواطنتهم الكاملة، فأصبح بإمكانهم الزواج دون موافقة ملّاكيهم وامتلاك الاراضي والأعمال التجارية الخاصة. 
** اضطراب التحكّم في الاندفاعات: فئة من الاضطرابات النفسية، تتسم بالاندفاعية، أي فشل مقاومة الإغراءات والدوافع والعجز عن كتم فكرة أو حديث ما. يتسم عدد من الاضطرابات النفسية بالاندفاعية، ومنها اضطرابات إدمان العقاقير والإدمان السلوكي، واضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع.
 
The Conversation