مثّلت ثنائيَّة الأصالة والمعاصرة أو التراث والحداثة ولا تزال، مفتاحاً لاكتشاف البواكير الحديثة للفكر العربي، بمختلف انتماءاته وما بلغه من مديات. فمن أحشاء هذه الثنائية انطلقت ميادين معرفيَّة خصبة، تمحورت حول مركز واحد يعكسه سؤال النهضة في العالم العربي: لماذا تقدّم الغرب ولماذا تأخرنا؟
هكذا نكون أمام "مفتاح" تمثلهُ ثنائيَّة الأصالة - المعاصرة أو التراث - الحداثة، أطلق العنان لـ"ميادين معرفيَّة" واسعة أسهمت في إثرائها عقول الجميع، التقت تجاذباتها عند "مركز" واحد، هو سؤال النهضة وهاجسها.
من المجالات الخصبة التي أطلقها "مفتاح" الأصالة - المعاصرة أو التراث - الحداثة وتحوّلت في ما بعد إلى "ميادين معرفيَّة" مولّدة للأفكار؛ البحث في الهوية، التراث أو الدين أو الإسلام، الموقف من الغرب، الليبراليَّة، العلمانيَّة، العودة إلى الذات، التنمية، التبعيَّة، العقلانيَّة، التحديث، السلفيَّة، الإصلاح الديني والتجديد الإسلامي، المرأة، العدالة والمساواة.
بهذا تحوّلت هذه الثنائيَّة إلى زمنٍ ثقافي أطّر الحركة الفكريَّة لعقود، كان من أمثلته القراءات التقليديَّة التي قدمها الفكر العربي لمقولة عصر النهضة، بوصفها الفضاء الذي انبثقت الأصالة والمعاصرة من أحشائه، كما هي الحال في ما قدّمه البرت حوراني في كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة"، وهشام شرابي في كتابه "المثقفون العرب والغرب"، أو تلك القراءة التي أسهم بها علي المحافظة في كتابه "الاتجاهات الفكريَّة عند العرب"، إذ تناول الاتجاهات الدينيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والعلميَّة في عصر النهضة.
كتطوير داخلي في البُنية المنهجيَّة وأدوات التحليل ومديات التغطية، شهدنا ولادة عملين مهمين ينتميان إلى هذه المرحلة أو الزمن الثقافي العربي هذا، ارتبط أحدهما بكتاب فهمي جدعان "أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث"، أيضاً كتابه الآخر الذي يحمل عنواناً دالاً مباشرة على الموضوع، هو "نظرية التراث". بينما ارتبط الثاني بمحمد جابر الأنصاري، أولاً عبر كتابه المهم "تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي"، ثمّ ثانياً وعلى نحو أوسع في كتابه "الفكر العربي وصراع الأضداد" وهو دراسة تطبيقيَّة ترتد بجميع أوجهها إلى ثنائيَّة هذا الزمن الثقافي؛ الأصالة - المعاصرة.
ينبغي لنا ألا نهمل كمحطات بارزة في الزمن الثقافي العربي هذا، أصحاب المشاريع الموسوعيَّة كالمشروع الذي قدمه أدونيس (علي أحمد سعيد) في ثلاثية "الثابت والمتحوّل"، كما مشروع طيب تيزيني "من التراث إلى الثورة"، ومشروع حسين مروّة "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، ومشروع حسن حنفي "التراث والتجديد" بجبهاته الثلاث، إذ يدلُّ باسمه وعنوانه ومحتواه دلالة تامَّة على هذا الزمن الثقافي العربي، الذي يحتل فيه التراث أو ثنائيَّة التراث - المعاصرة موقع "المفتاح" الذي نلج من خلاله إلى مختلف "الميادين المعرفية" للفكر العربي.
كما لا ينبغي إهمال أعمال الباحث المغربي عبد الله العروي أو بعضها على الأقل، خاصة كتابه "الآيديولوجيا العربية المعاصرة"، التي لخص فيها قصَّة العرب مع ذاتهم ومع الغرب في عصر النهضة، بمثال دال يكشف عن اتجاهات استجابتهم للتحدّي الغربي، ومقولات "الأنا" و"الذات" و"الهوية" و"الإسلام" و"التقدم" و"الانبعاث الحضاري"، ومن ثمّ الموقف من الغرب نفسه، عبر ثلاثية "الشيخ" وهو دالة على موقف الإسلاميين من النهضة، و"الزعيم السياسي" الدال على الإيمان بالليبراليَّة والدولة الحديثة، و"التقني التكنوقراطي" الدال على الإيمان بالتكنولوجيا والاختصاص كسبيل إلى التقدم والنهضة.