المدن تظهر مرئية

ثقافة 2021/01/23
...

محمد يونس
قراءة كاتب مثل ايتالو كالفينو تحتاج تركيزا ومتابعة، فهو أنموذج لهدف الاختلاف عن السائد، بل قتل أدبه، ما هو من أدب تقليدي يراه كتابة ساذجة لا تراعي الفن الأدبي، وكما أكد براعته في خلق لغة من لغة، فكانت لغة كالفينو تتصاعد برشاقة إلى معنى لتكتسبه، وتجعل وعينا في التلقي يتابع ذلك التصاعد حسياً، وأن ايتالو كالفينو يجعل اللغة أشبه ببساط ريح تحلق بنا في وحدات زمن متغيرة، وقد لمسنا ذلك بوضوح في أحد ارشق كتبه وهو "مدن لا مرئية" والتي بها اخرج الادب من النمطية والتقليد. وغير مفهوم الرواية ايضا، بل اكسبه منطقا جديدا، وقدم لنا مثاله المتفوق نوعيا عن الكثير من النتاجات الادبية المزامنة له، وهنا تكمن موهبة كالفينو، فهو يحرر الادب من قيود سياقات كثيرة، ولذلك نحيله الى منظومة الوعي وذهنية الكتابة المختلفة عند 
كالفينو.
يشكل عمل "مدن لا مرئية" نقطة تحول في الكتابة الروائية، فهو ليس منتجاأدبيا كأثر معهود، بل نشاط كتابة يؤكد وجهة نظر احترافية، إذ إنه أشبه بكتاب مركب من التاريخ والجغرافيا لكن بصيغة سرد روائي، وليس بالأفق التقليدي للكتابة الروائية، وهو صناعة لغة كتابة سردية تبدو عفوية من البعد العام للكتابة، لكنها تؤشر لنا أداء وعي محترف ومرن إلى حدٍّ ما، إذ جرى تقطيع الحكاية مسبقاً، وليس أثناء الكتابة، وكان كل وحدة حكاية مقطعة بوضوح من جهتها التاريخية، إذ نلمس ارتباطها بالتاريخ بوضوح، وكأن الرواية قادتنا للحظة تاريخية وأدخلتنا في 
زمنها،  ففطرة  الكتابة  هي التي أتاحت للوحدة التاريخية هنا التمظهر، وكما قد هيأت لها ساردا مناسبا من داخل بنية التاريخ، لكن ذلك السارد مثلما هو غير منفصل عن بنية التاريخ، هو أيضا يتيح للوعي الخلاق في الكتابة الإسهام في نشاط تلك الشخصية بجميع المستويات، وعلى وجه الخصوص في المواقف التي ينعشها التخيل المتندر 
والمختلف.
يعيد ايتالو كلفينو انتاج التاريخ أدبيا، اي بدل أن يقره لنا تقريرا، يقدم لنا الأدب كلوحة فنية بنفس تاريخي، وهذا الوازع الفني ليس دراجا ومعتادا، بل  يمثل كالفينو إحدى الطاقات الخلاقة في هذا المجال، 
فقد قدم لنا في تحفته  الفنية "مدن لامرئية" تسع وحدات رقمية من أنواع المدن، 
وطبعا لم يهتم بتسلسلها التاريخي بقدر ما اهتم بصياغتها بوعي متجدد، وبدأت المدن من الذاكرة البشرية الحية بتمددها التاريخي الطبيعي، وثم انتهت عند مدن مخفية غير ظاهرة، وطبيعي تمثل بعدا رمزيا ليس دارجا، ولا هو ملموس عضويا، وهنا نقف على فكرة ترجيح الفن الروائي المختلف عن السائد والمعهود، والتزام التطور الخلاق بالصيغ التي تثير التاريخ الأدبي نفسه، وتجعله مختلفا عبر تحليق اللغة  التي تبدل اليقين بالتصور.