الفلسفة وسعادتنا

آراء 2021/01/27
...

   عطية مسوح

يمكن القول إنّ مشكلة السعادة هي من أهمّ المشكلات التي شغلت الفلاسفة والمفكرين والأدباء في مختلف الأماكن والعصور. وقد يستنتج من يجوس في أروقة الفكر الإنسانيّ أنّ (السعادة) هي مركزه وغايته. فكلّ اليوتوبيات هي تصوّرات حول السعادة، وكلّ مشاريع المفكّرين والمعنيّين بشؤون تقدّم مجتمعاتهم هي تعبير عن حلم الإنسان بها، وتختلف معالجات مفهوم السعادة لدى الفلاسفة، وتختلف بالتالي مضامينها المحدّدة، ولعلّ الباحث المتابع يستطيع تصنيف تلك المضامين في اتّجاهات قد يكون اتّجاه أرسطو أقدمَها وأكثرَها حضوراً في الفلسفات عبر العصور. يرى أرسطو السعادة في المعرفة، وذلك انطلاقاً من أنّ الإنسان كائن عاقل، والعقل عند أرسطو خصيصة إنسانيّة تميّز الإنسان من الكائنات الحيّة الأخرى، لذلك فإنّ سعادته ذات منشأ عقليّ وطبيعة عقلانيّة، خلافاً للحيوانات التي تتحقّق سعادتها بتلبية احتياجاتها الغريزيّة المادّيّة، ولأنّ السعادة عقلانيّة فهي موصولة بالفضيلة، وبهذا فإنّ الإنسان يكون سعيداً – وفق نظرة أرسطو – بحصوله على المعرفة واتّساق أفعاله مع منظومة الفضائل، ولم يبتعد أرسطو كثيراً عن أستاذه أفلاطون في النظر إلى السعادة، برغم اختلافهما في الاتّجاه الفلسفيّ. فأفلاطون يرى أنّ القيام بالواجب هو السعادة، ومن الطبيعيّ أنّ القيام بالواجب يعني معرفة ذلك الواجب أوّلاً، ومعرفته تعني معرفة المجتمع وبنيته والدور المناط بكلّ فئة من فئاته وفق التصنيف الأفلاطونيّ .
  وتمتدّ الرؤية الأرسطيّة للسعادة إلى الفلسفة والفكر في أزمنة وأمكنة مختلفة، ففي فكرنا العربيّ نجد الكثير من الفقهاء والمفكّرين يربطون السعادة بالمعرفة، ولكنّهم يحدّدونها بمعرفة الله على حدّ قول الغزالي. معرفة الله هي السعادة، وبطبيعة الحال فإنّ تلك المعرفة تستتبع التمسك بالفضائل وانسجام السلوك معها، وبهذا تكتمل النظرة الأرسطويّة للسعادة عربيّاً. وينقل الصوفيّون السعادة من معرفة الله إلى الاتحاد بالذات الإلهيّة، فالسعادة عندهم فيضٌ إلهيّ يغمر نفس الصوفيّ فيحسّ بأنّه جزء من الذات أو متّحد بها، ولكنّ شاعرنا الكبير المتنبّي، صاحب النزعة الفلسفيّة، والذي خطا بشعر الحكمة العربي خطوات واسعة باتجاه الفلسفة، يرى خلافَ ما يراه أرسطو، يرى أنّ المعرفة مصدر شقاء وتعاسة:
/ ذو العقل يشقى في النعيم بعقله – وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم/
    أمّا فيلسوف التشاؤم شوبنهاور فيرى أنّ السعادة حالة عابرة، تأتي بعد تحقيق رغبة معينة كان المرء محروماً منها ساعياً إليها، ولا تلبث حالة السعادة أن تنتهي لأنّ رغبة جديدة تبرز وسعياً جديداً يبدأ، وهكذا الحياة، سلسلة من الرغبات ومسارات طويلة من العناء والألم ولحظات من السعادة. وبهذا تكون السعادة محطّة قصيرة من الراحة والسلبيّة (بمعنى عدم الفاعليّة)، بينما يكون الألم حالة إيجابيّة لأنّه يقترن بالتطلّع والسعي، وإذا كان فيلسوف التشاؤم هذا قد رأى الحياة سلسلة من المآسي والآلام، تتخلّلها محطّات سعادة قصيرة يتوقّف فيها الإنسان عن الفاعليّة، فإنّ الأديب  العربيّ المتفلسف جبران خليل جبران يقترب من هذه الرؤية أو يكاد يماثلها، يقول في قصيدته الشهيرة (المواكب):
/ وما السعادة في الدنيا سوى شبحٍ –   يُرجى، فإن صار جسماً ملّه البشرُ 
/ كالنهر يركض نحو السهل مكتدحاً – حتّى إذا جاءه.. يُبطي ويعتكرُ
/ لم يسعد الناسُ إلاّ في تشوّقهم –      إلى المَنيعِ فإنْ صاروا بهِ فتروا
  وإذا استعرضنا كلّ ما وصل إليه الفلاسفة عن طريق العقل، والشعراءُ عن طريق الحدس، نجد أنّ السعادة ظلّت سرّاً أو لغزاً مبهماً، وقد أجرؤ على القول إنّها وهمٌ يُخالِط الإنسان وهو يسعى إلى الأفضل . وقد يكون المتشائمون من أمثال شوبنهاور وجبران أكثر الفلاسفة اقتراباً من كنه لغز السعادة، فحتّى من ربطوا السعادة بالمعرفة لم يؤكّدوا استمرارها أو طول بقائها، فكلّ معرفة يسعَدُ الإنسان باكتسابها تفتح أمامه باب التطلّع إلى معرفة جديدة، أي باب السعي الشاقّ، وهذا ما أكّده الشافعيّ بقوله :
/ وإذا ما ازددت علماً – زادني علماً بجهلي
  ولو استعرض كلّ منّا شريط حياته لوجد أنّه عاش لحظات من السعادة خفق لها قلبه فرحاً،، ولكنّه لم يلبث أن خفق لهفة وهو ينظر إلى تلك اللحظات تهرب منه، ليمْثُلَ أمامه همّ جديد.غير أنّ أهمّ ما يقودنا إليه التفكيرُ واستقراء مظاهر الحياة، هو نسبيّة السعادة، وهذا ما لم يوفّه المفكّرون حقّه من النظر والتعمّق، برغم أنّه أبرز ما نشاهده في حياتنا اليوميّة، أمّا مجالات نسبيّة السعادة فهي دوافعها ومقاييسها، لأنّها تختلف من شخص لآخر. فثمّة من يجد سعادته بجمع المال، فيكرّس له كلّ تفكيره وسعيه، ويُسعده كلّ مال جديد، لكنّه يقضي عمره قلقاً على ما يجمع. وثمّة مبدعون يجدون سعادتهم في الإبداع، لكنّ الإبداع لا يخرج إلاّ من محرقة المعاناة، وتكون سعادة الإنجاز لحظة هاربة تُخلي مكانَها لقلق جديد. وثمّة من يجد السعادة في تكريس حياته لخدمة الناس والنضال من أجل حقوقهم، لكنّه يزداد ألماً حين يرى أهداف نضاله تزداد بعداً. أنقول أخيراً إنّ السعادة قد تكون شعوراً يرافق الإنسان وهو يسعى إلى هدف يظنّ أنّه سيحمل إليه تلك الحوريّة الشاردة؟ إذا صحّ ذلك فالسعادة وهمٌ خادع برّاق، والسعيدُ هو من يتلبّسه هذا الوهم، هو من يظنّ نفسه سعيداً، ففي هذا الظنّ راحة للنفس، ولا إثمَ فيه ولا يحزنون.