الموت في زمن كورونا.. شقاء الإنسان وسؤاله الأبدي

آراء 2021/02/09
...

   منى زعرور
«سيجئ الموت وستكون له عيناك». بهذا العنوان اللافت، الذي اتخذته الروائية اللبنانية، جمانة حداد، في كتابها الذي حفل بنماذج لمئة وخمسين شاعرا، قرروا الانتقال إلى الضفة الأخرى من الحياة، إثر انتحارهم. وتحت وطأة هذه الحصيلة الهائلة والمؤثرة في القرن العشرين، الذي تعقبت الروائية اللبنانية فهم مآلاتهم، رغم وحدة المصير بينهم، وقرارهم الذاتي بالانفكاك من الحياة، يتجدد السؤال الإشكالي، حول قدر الإنسان الحتمي، والحقيقة النهائية لمساره الختامي، في ظل فيروس كورونا المستجد.
 وربما، يبدو الإنسان وحده القادر على فهم هذه الحقيقة المعقدة والملغزة بين سائر الكائنات الأخرى، لطالما شغله الموت، منذ البداية؛ حيث انبثت في الأساطير والأديان والفلسفات هذه القضية الوجودية، من خلال عدة أمور، مثل تصورات ما بعد الموت، والتحضيرات الآخروية، وعوالم ما بعد الحياة، إلى جانب الاختلافات الطقوسية التي ترافق وفاة الشخص. كما أن هذا الإلحاح الداخلي، جعل الإنسان يحاول تعويضه بالخلود المادي أو المعنوي، بل وإيجاد تعزية من مشاعر الفراغ والعدمية. ومع أن الموت شخصيّ، خاص، على اعتبار أن كل إنسان يموت في وقت بعينه، وبشكل محدد، وفي مكان ما، أو قد يترافق موته مع آخر أو ضمن جماعات، غير أن الموت يوحد البشر من حيث المصير، لتصبح النهاية مشتركة لكل حيّ، مهما تعددت قصص وسيناريوهات الموت.
وتاريخياً؛ كان للموت الأثر المهم في تخليد الحضارات القديمة وآثار الإنسان، فمن هذه النهاية الحتمية والمثيرة نشأت المعالم الأهم في التاريخ والعمران، كجدارية سحرية، تضغط على الحقيقة، وتحاول بعث الحياة من قلب الفناء. كما نشأت ديانات الخصب التي قامت على فكرة موت الطبيعة وبعثها المتكرر، والذي هو انعكاس لموت الإله وانبعاثه المتجدد. غير أن المصير المغاير للإنسان دفع به إلى التأمل في ما واراء الطبيعة والحياة، ومن هذا المنطلق؛ تفرعت الإجابات، وتباينت درجاتها وصورتها.. نهاية في عالم حاليّ، فناء تام، أم تجدد للحياة!... خلود للنفس، خلود للروح، انبعاث أم زوال؟ وبقي السؤال الأساس يتمثل حول دور الأعمال الدنيوية للإنسان في رسم الحياة الثانية لو وجدت حياة، وقد كانت الشغل الشاغل للانسان ولجميع الديانات. إذ إن اليهودية، على سبيل المثال، آمنت بالبعث الجسدي والمحاسبة على جميع الأعمال والاقترافات، مع أنها كانت في وقت سابق تؤكد على وجود مكان مظلم تحت الأرض تبقى فيه أرواح الناس للأبد. أما المسيحية التي قامت على فكرة قهر الموت بقيامة المسيح، فقد آمنت بالبعث لحياة جديدة على اعتبار أن «من آمن بي ولو مات مسيحيا» مشددة على الثواب والعقاب والجنة والنار. كما بيّن الإسلام الحياة على أنها هبة الله وتعود إليه وأنها واحدة لكل إنسان وراجعة إليه، ويثاب ويعاقب في جنات نعيم ونار سقيم. غير أن فكرة الموت لدى الهندوسية قامت على أن الروح لا تموت في حين أن الجسد يفنى، وهي تتحرر منه لتسكن جسداً آخر في كل مرة وتثاب وتعاقب في هذه الحياة على ما اقترفته وفق ما تستحق ضمن ما يُطلق عليه اسم «الكارما». وفي البوذية، اعتبرت الحياة حياة واحدة من عدة أشكال أخرى من الحيوات، تستمر في التطهر حتى تصل إلى النيرفانا أو النعيم الكامل من العدم .هذا الموت العصي على الفهم الإنساني، والذي تنوعت حول فهمه الديانات والفلسفات لطالما كان أيضاً محل فرار في التفكير وتجاهل من الخشية والمصير، أو محل لامبالاة باعتبار أنه أمر طبيعي نهائي توجده الطبيعة .
وفي هذا السياق فإن القول بموت الانسان يعني عند هايدغر «أن يموت الجميع ما عداي» أما عند الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه فإنه «الغياب للأبد». وفي بعض الفلسفات الإنسانية التي تسمى»عدمية» اعتبارات حتمية لنهاية الحياة بالموت وعدم وجود أي حياة أخرى .مثل هذا التأمل في الموت وجب الوجود والتعمق في أي زمن ووقت لأن الموت حتمي، غير أن الملاحظ، أنه مع تزايد الموت الحالي نتيجة لجائحة كورونا، تلاشى السؤال حول الموت أو غاب عن بعده المعهود لصالح تعاطي سطحي مع الفكرة، لا يخرج عن دائرة التوصيف والعدّ. ربما بسبب طريقة الدفن الحالية مع غياب طقوس الوداع التي تتسم عادة بالهيبة والوقار في تشييع الموتى والمراسم الدينية المرافقة لها والتي تبعث الخشية والخوف والتأمل في نفوس المشاركين في حفل الوداع، حيث قادت إلى تحييد فكرة الموت الباعثة على الأسى والتأمل. 
وربما اعتياد الموت، بفعل تكراره المتوقع والمستمر قد ساهم في غياب الدهشة، مع غياب الموت الطبيعي.. بفعل حادث ما أو انتحار أو نتيجة حرب أو مرض أو نيل شرف الإقدام عليه بشجاعة لتحقيق غاية أعلى من الحياة والوجود. ربما ثقافة الحياة المعاصرة، القائمة على الاستهلاك قد غيبت السؤال لصالح الأفكار الاستهلاكية الجاهزة التي تقدمها الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي التي لجأ ويلجأ إليها الإنسان بشكل يومي لتبعد عنه كل فكرة عميقة وسؤال أعمق. 
ربما أن الأمل في الخلاص مع إشاعة الأخبار الإيجابية حول فعاليّة اللقاحات المطروحة في احتواء الفيروس والمرض كان العامل الأساسي في تصور الحياة بعيداً عن الموت. عوامل عدة قد تكون محلّ دراسة ودراسات لتفكيك علاقة الإنسان الحالية مع الموت والتأمل فيه، لاسيما في ظل الجائحة. والعقل البشري قادر على سبر السؤال و الأسئلة، رغم كون الحقيقة بعيدة متعالية، لاسيما في مسألة الموت، الذي يبقى من أعقد الأسرار والألغاز على الاكتشاف. أما الحقيقة الواضحة والأبدية، تبقى في أن الموت هو نهاية تجنب الانسان الوهن والعجز، بعيداً عن الإيمان الشخصي والمعتقدات.
 كاتبة لبنانية