الطاقة النوويَّة.. هل غادرها العالم؟ وماذا نفعل بها في العراق

منصة 2021/02/09
...

د. كمال حسين لطيف 
 
هناك العديد من التساؤلات التي تثار حول موضوع الطاقة النوويَّة وحاجة العراق إليها، لا سيما أننا نمرُّ بظرفٍ سياسيٍ واقتصاديٍ عصيبٍ يجعل من الصعب أنْ يتفهم البعض ما نحن بصدده وقد يجده البعض ضربا من الخيال أو التنجيم لشخصٍ يفكر بهذا الموضوع في هذا الوقت. 
ومن خلال مجموعة الأسئلة والمخاوف التي يطرحها البعض، والتي سأوزجها بالإجابة عن الأسئلة التي لها مساسٌ بالموضوع. 
السؤال الأول ينطلقُ من المحور التالي: العالم يغادر الطاقة النوويَّة ويتجه لغلق المفاعلات وأنتَ تريدُ بناءها في العراق من جديدٍ.
أما السؤال الثاني فكان: ماذا نفعل بالمفاعلات ولدينا هذا الكم الهائل من النفط والغاز؟ وهل العراق يحتاج فعلا للطاقة النوويَّة؟
أما السؤال الثالث: فكان: من أين سيأتي العراق بالأموال لبناء أربعة مفاعلات خلال العشر سنوات المقبلة، ونحن بهذا الظرف اليائس؟
 
الطاقة النوويَّة في العالم
* بدأت أولى محطات الطاقة النوويَّة التجارية في العمل في الخمسينيات من القرن الماضي. إذ إنها استثمرت لهذا الغرض واضطرد الاعتماد عليها خلال السبعين سنة اللاحقة والآن هي توفر ما نسبته 10 ٪ من كهرباء العالم من نحو 440 مفاعل طاقة. وقد أصبحت الطاقة النوويَّة ثاني أكبر مصدر للطاقة منخفضة الكربون في العالم، إذ مثلت زهاء 29 ٪ من إجمالي المصادر المنخفضة الكربون في 2018. أما في غير إنتاج الطاقة فهنالك أكثر من 50 دولة تستخدم الطاقة النوويَّة في نحو 220 مفاعل أبحاث لإنتاج النظائر الطبيَّة والصناعيَّة، وكذلك للتدريب.
تستخدم التكنولوجيا النوويَّة الطاقة المنبعثة نتيجة انشطار ذري لعناصر طبيعية معينة، وعلى إثر فكرة الانشطار النووي تم تطوير أول مفاعل في أميركا ولأول مرة في الأربعينيات، وخلال الحرب العالميَّة الثانية ركزت الأبحاث في البداية على إنتاج القنابل، وفي الخمسينيات من القرن الماضي تحول الاهتمام إلى الاستخدام السلمي للانشطار النووي، والتحكم فيه لتوليد الطاقة.
ويمكن أنْ نقول إنَّ الطاقة النوويَّة للأغراض السلمية جمعت الآن أكثر من 17000 (سنة عمل) من الخبرة في جميع المفاعلات حول العالم منذ الأربعينيات، إذ تعمل محطات الطاقة النوويَّة في 31 دولة حول العالم. ومن خلال شبكات النقل الإقليمية بين البلدان المتجاورة يعتمد عددٌ أكبر من البلدان جزئيا على الطاقة المولدة بالطاقة النوويَّة باستيرادها من دول الجوار كما هي الحال في إيطاليا والدنمارك، إذ تحصلان على ما يقرب من 10 ٪ من كهربائهما من الطاقة النوويَّة المستوردة من فرنسا والسويد.
عندما بدأت الصناعة النوويَّة التجارية في الستينيات، كانت هناك حدودٌ واضحة بين صناعات الشرق والغرب، أما اليوم فلم تعد تلك الحدود الفاصلة الأميركية - الروسية موجودة، إذ أصبحت الصناعة النوويَّة كتجارة دولية حرة وبدون قيود أو حدود، فقد يحتوي مفاعل قيد الإنشاء في آسيا اليوم على مكونات يتم توريدها من كوريا الجنوبية وكندا واليابان وفرنسا وألمانيا وروسيا ودول أخرى. وبالمثل، قد ينتهي الأمر باليورانيوم المصنع كوقودٍ في أستراليا أو ناميبيا في مفاعل في الإمارات العربيَّة المتحدة، بعد أنْ تم تحويله وتخصيبه في فرنسا أو هولندا أو في المملكة المتحدة وتصنيعه في كوريا الجنوبية.
لقد امتدت استخدامات التكنولوجيا النوويَّة إلى ما هو أبعد من توفير الطاقة المنخفضة الكربون. فقد بدأت تساعد في السيطرة على انتشار الأمراض، وتساعد الأطباء في تشخيصهم وعلاج مرضاهم، وربما ستقوى أحلامنا لتكون أكثر طموحا لاستكشاف الفضاء أيضا. لقد وضعت هذه الاستخدامات المتنوعة التقنيات النوويَّة في صميم جهود العالم لتحقيق التنمية المستدامة.
يتم الآن توليد 10 ٪ من الكهرباء من نحو 440 مفاعلا للطاقة النوويَّة حول العالم، ونحو 50 مفاعلا إضافياً قيد الإنشاء، أي ما يعادل 15 ٪ تقريباً من السعة الحالية. في العام 2019 زودت المحطات النوويَّة 2657 تيراواط ساعة من الكهرباء لدول العالم ارتفاعاً عن عام 2018 بـ 2563 تيراواط ساعة وهذه هي السنة السابعة على التوالي التي يرتفع فيها التوليد النووي العالمي، بمعدل إنتاج سنوي قدره 311 تيراوات ساعة أعلى من عام 2012.
أنتجت 12 دولة في العام 2019 ما لا يقل عن ربع احتياجاتها من الكهرباء من الطاقة النوويَّة. كما وتحصل فرنسا على نحو ثلاثة أرباع كهربائها من الطاقة النوويَّة، وتحصل سلوفاكيا وأوكرانيا على أكثر من النصف من الطاقة النوويَّة، بينما تحصل المجر وبلجيكا والسويد وسلوفينيا وبلغاريا وسويسرا وفنلندا وجمهوريَّة التشيك على الثلث أو أكثر. أما كوريا الجنوبية فإنها تحصل على أكثر من 30 ٪ من الكهرباء من الطاقة النوويَّة، بينما في الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وإسبانيا ورومانيا وروسيا، فنحو خمس الكهرباء من الطاقة النوويَّة. وكانت اليابان معتادة على الاعتماد على الطاقة النوويَّة في أكثر من ربع احتياجاتها من الكهرباء ومن المتوقع أنْ تعود إلى هذه النسبة قريباً.
إنَّ هذه الحاجة واستمرار الطلب على الطاقة يقطع جزماً أنَّ الخيار النووي ليس خياراً مجازياً بل قد يكون واجباً ومهما للكثير من الدول فلا تزال هناك حاجة واضحة لقدرات توليد جديدة حول العالم، سواء لاستبدال وحدات الوقود الأحفوري القديمة، خاصة تلك التي تعمل بالفحم، والتي تنبع منها الكثير من ثاني أكسيد الكربون، أولتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء في العديد من 
البلدان.  ففي العام 2018 تم توليد 64 ٪ من الكهرباء من حرق الوقود الأحفوري على الرغم من الدعم القوي لمصادر الكهرباء من الطاقة المتجددة والنمو فيها في السنوات الأخيرة، إلا أنَّ مساهمة الوقود الأحفوري في توليد الطاقة ظل دون تغيير، ففي السنوات العشر الماضية منذ العام 2005 حافظ الوقود الاحفوري على نسبتة مقاربة لـ(66.5 ٪ ) وظلت كما هي عليه حتى الآن مع تغيرات طفيفة لا تعدُّ جوهريَّة وإنما تكتيكيَّة.
 
"سيناريو التنمية المستدامة"
في توقعات الطاقة العالمية (2020 - 2021) تنشر وكالة الطاقة الدولية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD سنويا السيناريوهات المتعلقة بالطاقة، وهناك مايسمى "سيناريو التنمية المستدامة" وهو سيناريو طموح يتوافق مع توفير الطاقة النظيفة والموثوقة والحد من تلوث الهواء، ومن بين أهداف هذا السيناريو برامج ومشاريع إزالة الكربون، وهذا ما دفع الى تزايد برامج توليد الكهرباء من الطاقة النوويَّة من جديد وبنسبة 55 ٪ تقريبا بحلول عام 2040 أي إلى 4320 تيراواط ساعة، وهذه النسبة تقدر سيناريو للنمو السنوي بحدود 599 جيجاواط.
إنَّ أحد أهم أسباب هذا التوجة القصور الواضح في الطاقة المتجددة التي باعتقادي لم تنضج بعد للاعتماد عليها بشكلٍ جذري ومع ضغط إجراءات التخفيف وتخفيض الكربون والخوف المتزايد من التغير المناخي أصبح خيار المفاعلات النوويَّة لإنتاج الكهرباء خياراً مهماً وملحاً لدول العالم بدون تردد. بل وأكثر من ذلك طرحت الرابطة النوويَّة العالمية سيناريو أكثر جرأة من هذا – اذ يقترح برنامج (Harmony) إضافة 1000 جيجاوات من القدرة النوويَّة الجديدة بحلول العام 2050 ، لتوفير 25 ٪ من الكهرباء أي (نحو 10000 تيراواط ساعة) من 1250 جيجاواط من السعة (مع السماح للتقاعد للبعض منها حول العالم والذي سيزيد عمرها عن الخمسين عاماً). إنَّ ذلك سيتطلب إضافة 25 جيجاواط سنوياً واعتباراً من العام 2021، وتصاعدياً إلى 33 جيجاواط سنوياً، وهو ما لا يختلف كثيراً عن 31 جيجاوات في العام 1984، أو الرقم القياسي الإجمالي البالغ 201 جيجاواط في الثمانينيات.
إنَّ توفير ربع الكهرباء في العالم من خلال الطاقة النوويَّة من شأنه أنْ يقلل بشكلٍ كبيرٍ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ويحسن جودة الهواء بخلاف ما يظنه البعض من اتخاذ الدول إجراءات تقليص المفاعلات حول العالم وسنستعرض لاحقاً عند الحديث عن البرنامج الوطني الألماني من أين أتت فكرة تقليص المفاعلات التي انتشرت بشكلٍ كبيرٍ وانها ليست واقعيَّة بالمطلق.
 
نظرة عامة حول العالم
تشارك جميع دول العالم في تطوير قدراتها في الطاقة النوويَّة، وإليكم بعض الأمثلة حول حركة الدول للحصول على المفاعلات لإنتاج الكهرباء في آخر إحصائيَّة محدثة حول المفاعلات المستعدة للتشغيل أو التي تحت الإنشاء أو المخطط لها في جميع أنحاء العالم.
 
أولاً: دول أمريكا الشماليَّة
آ- كندا تمتلك كندا 19 مفاعلاً نووياً تحت إدارة التشغيل الآن، بقدرة صافية مجمعة تبلغ 13.6 جيجاواط. في العام 2019، ولّدت الطاقة النوويَّة 15 ٪ من الكهرباء في البلاد، تتوزع المفاعلات النوويَّة الـ19 في البلاد كما يلي. ستة منها في بروس وأربعة في دارلينجتون – وهذه العشرة ستخضع للتجديد، إذ سيقوم برنامج التطوير بإطالة العمر التشغيلي من 30 إلى 35 عاماً. والباقي في أونتاريو، وقد مكنت أعمال التجديد المماثلة في أونتاريو من التخلص التدريجي من الفحم في العام 2014، ما أدى إلى تحقيق واحد من أنظف مزيج الكهرباء في العالم.
ب- المكسيك تمتلك المكسيك مفاعلين نوويين قابلين للتشغيل، بقدرة صافية مجمعة تبلغ 1.6 جيجاواط. في العام 2019، أنتجت الطاقة النوويَّة 4.5 ٪ من الكهرباء في البلاد.
ج- الولايات المتحدة: تمتلك الولايات المتحدة 94 مفاعلاً نووياً تحت إدارة التشغيل بقدرة صافية مجمعة 96.6 جيجاواط. 
في العام 2019 وفّرت الطاقة النوويَّة نحو 20 ٪ من كهرباء البلاد، كما أنَّ هناك أربعة مفاعلات نوع (AP1000) قيد الإنشاء، لكن تم إلغاء اثنين منها لأسباب اقتصاديَّة وفنيَّة، إذ كان أحد أسباب التوقف عن البناء الجديد في الولايات المتحدة وحتى الآن هو التطور الناجح للغاية في ستراتيجيات الصيانة للمفاعلات العاملة، فعلى مدى السنوات الخمس عشرة الماضية أدى تحسن الأداء التشغيلي إلى زيادة أعمار استخدام محطات الطاقة النوويَّة الأميركيَّة، الذي أدى بدوره الى ارتفاع كفاءتها بما يعادل 19 محطة جديدة بطاقة 1000 ميجاوات وبسبب هذا التطور في برامج الصيانة انخفض عدد المفاعلات العاملة في السنوات الأخيرة من 104 مفاعلات في العام 2012 الى 94 عام 2020 عدا في العام 2016 دخول أول مفاعل طاقة نووية جديد في البلاد بعد 20 عاماً من توقف البناء الجديد. قد تم الإغلاق المبكر لتلك المفاعلات التسعة بسبب مجموعة من العوامل منها انخفاض في أسعار الغاز الطبيعي، وتحرير السوق، والإفراط في دعم المصادر المتجددة، وكذلك بسبب ظروف السياسة (حملات لا)، ومع ذلك استمرت أميركا في اعتمادها على الطاقة النوويَّة ضمن خططها غير المعلنة للأعوام المقبلة والتي ستطرحها وفقاً للسياسة العامة التي تنتهجها في خليطها المعتاد بين الاقتصاد والسياسة العامة في البلاد.
 
ثانيا:- دول أمريكا الجنوبيَّة
الأرجنتين: يوجد في الأرجنتين ثلاثة مفاعلات بقدرة صافية مجمعة 1.6 جيجاواط. في العام 2019 ، أنتجت الدولة 6 ٪ من احتياجاتها من الكهرباء من الطاقة النوويَّة. 
البرازيل: للبرازيل مفاعلان بسعة صافية مجمعة تبلغ 1.9 جيجاواط. في العام 2019 ، ولّدت الطاقة النوويَّة 3 ٪ من كهرباء البلاد.
 
ثالثاً:- غرب ووسط أوروبا
بلجيكا: تمتلك بلجيكا 7 مفاعلات نووية تحت إدارة للتشغيل، بقدرة صافية مجمعة تبلغ 5.9 جيجاواط. في العام 2019، أنتجت الطاقة النووية 48 ٪ من الكهرباء في البلاد، ولدى فنلندا أربعة مفاعلات نووية تحت إدارة للتشغيل، بقدرة صافية مجمعة تبلغ 2.8 جيجاواط. في عام 2019 ولّدت الطاقة النووية 35 ٪ من كهرباء البلاد. كما لديها مفاعل خامس بقدرة (1720 ميغاواط نوع EPR) لا يزال قيد الإنشاء، وهناك خطط لبناء وحدة مفاعل روسي نوع (VVER-1200) في موقع جديد. 
أما فرنسا فتمتلك الآن 56 مفاعلا نوويا تحت إدارة التشغيل، بقدرة إجماليَّة تبلغ 61.4 جيجاواط. في العام 2019 ولّدت الطاقة النووية 71 ٪ من الكهرباء في البلاد، وكانت سياسة الطاقة لعام 2015 تهدف إلى خفض حصة البلاد من التوليد النووي إلى 50 ٪ بحلول 2025. وقد تم تأجيل هذا الهدف الآن حتى عام 2035.
ألمانيا، كثر الجدل عن موقف ألمانيا من المفاعلات النووية وانتشرت آراء البعض لجعل المانيا أنموذجاً في قدرتها وعزمها على التخلص من الطاقة النووية وانتشرت الحكايات والحملات لسلوك ألمانيا في التعاطي مع هذا الملف، واليكم الموقف الدقيق لألمانيا من الطاقة النووية. تستمر المانيا وحتى الآن في إدارة وتشغيل ستة مفاعلات للطاقة النووية بقدرة صافية مجمعة 8.1 جيجاواط. 
في العام 2019 ولّدت الطاقة النووية 12.5 ٪ من الكهرباء في البلاد، ومن المفترض أنْ تتوقف ألمانيا حسب خطتها تدريجياً عن التوليد النووي بحلول 2022 كجزءٍ من سياستها في برنامجها المعلن تحويل الطاقة 
(Energiewende ) التي وضعتها كمفتاح للانتخابات عام 2010 والذي تزامن مع أحداث فوكوشيما في اليابان الذي زاد الضغط على السياسة العامة الالمانية، ومنذ ذلك الحين تم اعتماد الخطة على نطاق واسع بوصفها السياسة الوطنيَّة الأكثر طموحًا للتخفيف من تغير المناخ، لم تقدم هذه السياسة انخفاضا ملموسا في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وتتوقع الحكومة الألمانية أنْ تفوت هدفها المتمثل في خفض الانبعاثات بنسبة 40 ٪ مقارنة بمستويات عام 1990 بهامش واسع بحلول عام 2035 إذا ما استمرت في خطتها في التخفيض، كما نتوقع أنْ تتبنى الحكومة الألمانيَّة ستراتيجيَّة وطنيَّة ومنهجاً مغايراً تماماً في الأعوام المقبلة.
 
رئيس الهيئة العراقيَّة 
للسيطرة على المصادر المشعة