محمد الحداد
كان أوانُ لعبةِ العمرِ قد حان..علمَ الرجلُ الغامض الوسيم بهذا رغم ادراكه المسبق بفداحةِ اللعبة وما يمكن أن تفضي إليها..عيونُ الموت تتربصُ داخلَ مسدسٍ شرهٍ وتوشكُ أن تطلَّ من فوهتهِ المصوّبة نحو رأسِ لاعبها المقامر..هكذا تبدو لحظة النهاية "الروليتية" لجميع المتفرجين..قريبة جداً حدَّ توهّم وقوعها..كأنها أقرب من فوهةِ المسدس ذاتها لكنها تبدو للاعبِ نفسهِ بعيدةً جداً..وربما لولا فلسفة الاستهتار الرهاني هذهِ ما كان لتلك اللعبةِ الخطيرة أن تستمرَ منذ ابتداعها وحتى الآن.
ولعبة الروليت الروسية لمن لا يعرفها هي لعبة موتٍ أو حياة في رهانٍ مصيريّ قاتل بين غريمين يقررُ نهايتها مسدسٌ واحد يصوبُ اللاعبان فوهتهُ نحو رأسيهما بشكلٍ منفرد مرةً بعد مرةٍ بعد أن يُلقمَ مُسبقاً بطلقةٍ واحدة فقط ويحركُ اللاعبان اسطوانتهُ بقوةٍ عدة مرات..وتصلُ اللعبةُ ذروة اثارتها حينما يبدأ كلٌّ منهما بالضغط على زنادِ المسدس بالتناوب.. وهنا لا يمكن لأحدٍ أن يجزمَ بقتلِ أيّ من اللاعبَين غير أن المُسلّم بهِ أن واحداً منهما فقط سينجو آخر المطاف بضربةِ حظٍ عمياء..لكن هل كانت هذهِ الحرب المسعورة في سوريا بالنسبةِ لرجلِ الكريملين الوسيم تشبهُ بالفعل مقامرةَ قاتلة في لعبةِ روليت روسية شائعة؟ وهل سيفلحُ هذا المقامر في كسبِ رهانهِ الروليتي والفرار من قبضةِ الأقدار إلى الأبد أم أن رصاصة موتٍ بثمنِ الحياة ستنتصرُ عليهِ وتضعُ رغماً عنهُ نهاية للعبة؟
بالتأكيد لم يكن القرار البوتيني لشدِّ الرِحال صوبَ سوريا محضَ سياحةٍ ربيعية طلباً لدفءٍ لذيذ بعيداً عن ثلوجِ سيبيريا القارسة لأن خيوطَ الحرب السورية كانت معقدة جداً بل تشبهُ أحجية لا حلَّ لها.. خلطة متشابكة ومتداخلة مع بعضها بشكلٍ مرعب.. تنظيماتٌ ارهابية وميليشياتٌ متشددة من كل جنسٍ وعِرقٍ ولون مدعومة من جهاتٍ متعددة.. حربُ عقائد وثاراتٌ تاريخية وصراعُ نفوذ وتناطحُ أحلام وليُّ أذرع وتشابكُ ارادات وتصفية حسابات وحروبٌ بالانابة.. تلك الخلطة العجيبة أربكت حساباتِ رجل الكريملين بكل تأكيد وصدّعتْ رأسهُ وزغللتْ عينيهِ الخضراويتين..
فوق ذلك أرهقهُ كثيراً نزقَ الأتراك وتقلبَ أمزجتهم ومواقفهم وخططهم باستمرار واصرارهم العنيد على اجهاضِ أيّ جنينٍ كرديٍّ محتمل يمكن أن يلدهُ رحمُ الأزمةِ السورية قربَ التخوم التركية..أدركَ بوتين ما يعنيه الأتراك بالرعبِ التاريخي من ذلك.. خاصة لو تبنّى الأميركان ذلك الجنين غير المرحب بهِ وتعهدوهُ بالحضانةِ والرعاية حتى يشتدَّ عودهُ ويكبر أمام أنظارهم مثل أيّ كابوسٍ ليليٍّ مزعج يلدهُ الليلُ متحصناً بظلامهِ الدامس قبلَ أن يتحولَ في الصباح إلى حقيقةٍ ساطعة..لكن بوتين برغم كل ذلك الصداع المستمر كان مجبراً على المضي قدماً لأنهُ أدركَ مُسبقاً بأن الثمارَ العالية تستحقُ مشقة الصعودِ إليها وأن تذوقها في الخواتيم فيهِ متعة مضاعفة تستحقُ صبرَ الانتظارِ الطويل في البواكير.
في الوقت ذاتهِ كانت عينُ بوتين الأخرى تراقبُ بقلقٍ على مسرحِ الأحداث مشهداً مُفزعاً آخرَ لا يقلُّ ازعاجاً يتمثلُ بحربٍ غير معلنة بين حلمٍ ايرانيّ قديم وحلمٍ تركيّ أقدم منهُ يقفُ لهُ بالمرصاد وجهاً لوجه..وكانت الضرورةُ تحتمُ على بوتين أن يكون جاهزاً دائماً لفضِّ أيّ اشتباكٍ محتمل ربما يتناطحُ فيهِ هذان الحلمان..ورغم أن الأيرانيين والأتراك حليفان مهمان لروسيا في هذهِ الحرب لكن مخاوفَ بوتين في تمددِ أيٌّ من الحلمين على الأرضِ السورية ولو لشبرٍ واحد تظلُّ احتمالية قائمة في الوقتِ الذي لا يريدُ فيهِ أن تخرجَ الأمورُ عن السيطرةِ وتعبثَ بحساباتهِ المعدّة سلفاً .. وكان رهانُ بوتين الأصعب يكمنُ في ضمانِ استمرارهِ بمسك كلّ خيوط تلك الحرب بإحكامٍ تام ومن دونِ أيةِ احتمالاتٍ لأخطاءٍ قاتلة ويمكن القول أنهُ أجادَ حتى الآن التعاطي مع كل تلك الخيوط المتشابكة بحنكةِ حائكٍ روسيّ عتيدٍ
ومعتق.
ادارةُ كل تلك الملفاتِ الشائكة بهذهِ الاحترافية العالية وبالتزامنِ مع حركةٍ أخطبوطيةٍ دائبة ضِمنَ أفقٍ بعيدٍ جداً خارجَ الأسوار الروسية ما كان لها أن تصبحَ ممكنة لبوتين لولا نجاحه المسبق في اعادةِ ترتيب البيتِ الروسي من الداخلِ أولاً بأناقةِ وحنكةِ واتقانِ رجل الKGB الذي ينجزُ كلَّ شيءٍ في الخفاءِ بهدوءٍ تام ومن دونِ ضجيج لكنهُ مع ذلك يستأثرُ بمسكهِ بسلسلةٍ تحوي كل المفاتيح معاً وبيدٍ واحدة.. وكعادتهِ معهُ دائماً.. بدا أن الحظ ابتسمَ لبوتين أيضاً حينما رافقَ ادارتهُ الناجحة لملفاتِ الحرب المستعرة هدوءٌ واستقرارٌ في ما يتعلق بجبهةِ روسيا الداخلية مما شجعهُ على الاستمرار..وقد شدّدَ الخطاب البوتيني الداخلي منذ بداية التدخل الروسي في سوريا على ترويج فكرةٍ تخديريةٍ مُطمئنة توحي بمنحِ الأولوية الكبرى للمفاوضاتِ السلمية بشكلٍ أكبر من رهانٍ عقيم على حربٍ مفتوحة الفم لا يمكن التنبؤ بعواقبها..ويبدو أن بوتين نجحَ تماماً في تمريرِ تلك الرسالةِ المهمة للشعبِ الروسي عبرَ الاعلام الرسمي ولقيتْ صدىً ايجابياً عندهُ بسببِ مرونة وواقعية المنطق الذي روّجتْ بموجبهِ هذهِ الستراتيجية والتي كانت متناغمة بشكلٍ ما مع المزاجِ الشعبي الروسي العام.. وظل السيرُ في هذين الطريقين معاً خياراً واقعياً قائماً حتى الآن ويتمتعُ بنسبةِ حظوظٍ متوازية رغم أن أياً منهما لم يُفضِ بعد إلى أيةِ نتيجةٍ حاسمة.
لم يكن اضافة كل تلك الثمار إلى سلةٍ روسيةٍ واحدة سهلاً على الاطلاق..لكن الوصولَ إليها تطلبَ الكثير من العمل والتخطيط وحسن الادارة مع قليلٍ من الحظ وكثيرٍ من الدماءِ السورية بكل تأكيد!
ثمة مَن لا يزالُ يجزمُ أن لحظة الموتِ "الروليتي" هذهِ تبدو بعيدةً جداً "حتى الآن على الأقل" عن رأسِ رجلٍ غامضٍ وغريب يدعى فلاديمير بوتين.. ذلك العرّاب الروسي الأمهر وأحد أشهر لاعبيها المحترفين والذي لا يعرفُ أحدٌ حتى الآن على وجهِ الدقة كيف يتمكنُ دائماً من الانسلالِ في اللحظاتِ الأخيرة من فمِ الموت مثل قطرةٍ زئبقيةٍ مراوغة..لكن الثابتَ أن هنالك مرةً أخيرةً لكلِّ مُكرَر.. ومهما كان احترافُ لاعبِ الروليت في الافلاتِ مرةً بعد مرةٍ من موتٍ بهيئةِ رصاصةٍ يتيمة تتربصُ داخلَ مسدسٍ متهور فإن لحظةً مأساويةً أخيرة ستأتي قطعاً كي تضعَ نهاية للعبة..نهاية سيتكفلُ توقُ الرِهانِ المقامر على مواصلةِ اللعبةِ باصرارٍ محموم بقدومها لامحالة.