الصوائت بين التراث والنظريَّة المعاصرة

ثقافة 2021/02/13
...

 محمد يونس
 
تمثل اللغة وجوها عدة ولكن أهمها الذي عني بالدراسة هو الصوت، ووحدة الصوت التي تتفرع منها صفات الكلام والتلفظ والتعبيرات والمعاني، ووحدة الصوت أحد الوجوه التي عني بها الدرس اللساني فضلا عما تشكله من بعد تاريخي في جانب الفطرة البشرية المتميزة بعدم انفصالها عن بنية التاريخ. وما سمي بعلم الصوت هو قديم قدم البشرية، إذ لا يمكن نكران ما يمثله الصوت من طبيعة بشرية تاريخية اكتسبها الانسان القديم بالتدريج، حتى تكاملت بنية اللغة العامة واصبحت شكلا اجتماعيا، وتميزت في الاتصال الترابطي بين البشر.
 وتشكل السمات الاجتماعية الصوائتية مصداقا للفطرة، ودليلا على أنها تساير سيرورة التاريخ ولا تنفصل عنه، فإن كيان أية اسرة إذا اخذناه أنموذجا لفكرتنا نجد تفاصيل الكلام البشري لدى الاسرة مكتسبة فطريا من الادنى حتى الاعلى، فأي طفل يتعلم من اسرته طريقة النطق وصوتية الكلام، لذا الاقرار بفكرة تشكل الصوت فطريا في حياتنا ومن ثم يتحول لوسيلة كلام واتصال بين الافراد بشكل اجتماعي متوحد لغويا، وتفويض المشاع الفطري عملية تداول بلا قصدية او إلزام.
إن طروحات علم الفونولوجيا ما كان لها حضور فاعل لولا الفراهيدي، والذي يعد السيرورة الفعلية لعلم الصوت، فهو لم يقر بمقومات صوتية بل اسس نظاما فعليا للوحدة الصوتية، وإذا كان ذلك قد اقتصر على موسيقى اللغة الشعرية والاعراف التي تبناها فكانت ذلك النظام الذي لا زال يعتمد من قرون طوال. 
اهتم الفراهيدي بموسيقى الشعر اكثر من الصوت البشري، إذ الأخير يمثل فطرة في علم موسيقى الشعر أحد الانظمة التي تتداول في الكتابة الشعرية بالقصيدة العمودية والتفعيلة، بينما كان علم الفونولوجيا حديث الولادة، وصراحة مجاله العام هي في المنهج التدريسي، ولا يمس طبيعة الكلام البشري مباشرة الا في الابعاد النظرية، وفي ما نرى لا يمكن أن يقاس سوسير بالفراهيدي رغم الفارق الزمني واختلاف مقومات الكتابة، فنرجح الفراهيدي على سوسير كونه قد اسس نظاما للصوت، وبقي منهجه متماسكا الى اليوم، ولم يقدم نظرية تستند الى افكار، واذا درسنا عملية الصوت والتلفظ الصوتي نجد أن التراث قد اسس تفسيرات علمية لطرق التلفظ ونمطها في اسس ثابتة، وجعل لكل حرف وحدة صوتها بنمط تعييني، وقد رسم التراث العربي لنا صورة بليغة لمنهج الصوت، فقد اسس ابن سينا في كتاب الشفاء لصوتية الحروف وقنن ذلك في تبويبات، وفرق بين القرع والقلع ايضا، وكانت هناك بصيرة ادراك نوعي فضلا عن الحس العام الذي عرف به علم الصوت في التراث، وقد اشار التراث الى فكرة – جهاز النطق – وهو تأسيس للمفهوم الحديث الذي استبدله البعض بذلك المفهوم التأسيسي، وكما اشار التراث الى فكرة ذات اهمية في عدم تزامن الصوت والبصر أحيانا، فأشار الى ثمة اصوات تكون تالية لمستوى البصري، فنحن اليوم نشاهد الطائرة خصوصا الحربية ومن بعد ذلك نسمع صوت انطلاقها، واعتقد تلك الفكرة ذات اهمية تنبه التراث لها قبل المنهج العلمي بقرون عديدة، ونحن لا نريد ازاحة المعاصرة النظرية ونبقي على العقل التراثي، بل نهدف الى تأكيد صحة فكرتنا على أن الاصول الاعتبارية لعلم الصوت هي الفطرة البشرية وما كان من نظريات الا امر ينحصر في مجال الدراسة، وتعميمه على اوسع من ذلك هو مخالفة للمنطق العلمي وانحياز أيضا
 لا مبرر له..