المتنبي الحاضر في مهمتين فضائيتين

ثقافة 2021/02/16
...

  عبدالزهرة زكي

كانت رسالة التهنئة التي بعثت بها وكالة ناسا الأميركية الأسبوع الماضي عبر تويتر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة قد جاءت بصيغة فريدة ولماحة، إذ اكتفت التهنئة ببيت من الشعر العربي، من المتنبي:
                                                    إذا غامرت في شرفٍ مرُومِ                         فلا تقنعْ بما دون النجوم
هذه التهنئة جاءت في حساب تويتر الخاص بالمركبة بيرسيفيرانس التابعة لناسا، وهي بمناسبة بلوغ المسبار الإماراتي مداره حول المريخ. والمركبة الأميركية بيرسيفيرانس معنية هي أيضا، كما هو مسبار الأمل، بمهمة المريخ، وقد صممت بحجم سيارة وذلك لاستكشاف فوهة جيزيرو على المريخ. تم تصنيع المركبة الأميركية بواسطة مختبر الدفع النفاث، وتم إطلاقها في الثلاثين من تموز عام 2020. إنهما مهمتان فضائيتان متزامنتان تقريباً لكوكب واحد ولكن بانشغالات مختلفة. فمن مهمات بيرسيفيرانس التأكد ما إذا كان الطيران ممكنًا في الغلاف الجوي للمريخ حيث تحمل المركبةُ مروحيةً هي عبارة عن طائرة تجريبية، فضلا عن البحث في مهمات علمية أخرى من بينها التحري عن إمكانية السكن على المريخ. بينما يسعى مسبار الأمل، بعد هدفه الريادي عربياً، إلى تكثيف جهوده حول الغلاف الجوي للمريخ، بحيث يطمح إلى تكوين فهم بشأن التغيرات المناخية على سطح الكوكب، ورسم خارطة توضح طبيعة طقسه الحالي عبر دراسة الطبقة السفلى من غلافه الجوي، ودراسة تأثير التغيرات المناخية على المريخ في تشكيل ظاهرة هروب غازي الأكسجين والهيدروجين من غلافه الجوي عبر دراسة العلاقة بين طبقات الغلاف الجوي السفلية والعلوية.
إنهما مهمتان علميتان ذواتا طبيعة إنسانية وذلك في عصر تتواصل فيه جهود العلماء والمؤسسات العلمية من أجل مراقبة الحياة على الأرض من خلال الفضاء.
العلم يمضي قُدُماً في هذا المجال، وهذا هو جانبٌ من الاتجاه الإنساني المهم في حركة العلوم وتنميتها، بينما ما زالت جهودٌ أخرى لا إنسانية تتواصل لتوجيه نتائج العلوم بمسار آخر موازٍ ومضاد للمسار الإنساني، إذ ينجم عن ذلك ما نشكوه من تخريب متفاقم للحياة والطبيعة على كوكبنا وبما ينذر حتى بإمكانية تهديد الحياة. ولعل التسابق الوحشي باتجاه تطوير وتكثير الأسلحة النووية، وما ترافقه من تجارب وأعمال مختبرية، هو الجانب الأشد خطورة من حيث تهديده للحياة والبيئة.
بالتأكيد أن من المهم تعزيز نجاحات التقدم في الجانب الإنساني والأهداف المدنية سواء في علوم الفضاء أو في الصناعات النووية وغيرها من العلوم الجينية والصناعات الكيمياوية. هذا ما يستحق فعلا المغامرة التي يركز عليها بيت المتنبي، وإلا فأي شرف في النتائج التدميرية للصناعات الحربية التي تتبارى فيها الدول باستهتار مخزٍ بالمصير البشري ومصائر الأحياء الأخرى على هذا الكوكب. يجب أن تواصل البشرية تقدمها بمختلف العلوم ولكن بضبط هذا التقدم بما يحفظ الحياة ويدرأ عنها المخاطر ويعزز رفاه المجتمع البشري. هكذا يرسخ العلم إنسانيته.
وكانت التهنئة التي تقدم بها رجال المركبة الفضائية الأميركية بيرسيفيرانس لزملائهم في المسبار الإماراتي (الأمل) لمحة تستحق التقدير وذلك بمحمولها الإنساني النبيل.
حضور الشعر في مثل هذه الحالة هو، في وجهه المباشر الأول، تعبير خلاق عن قدرة الشعر على الاختصار والتكثيف، فهذا بيت شعري اختزل الكثير مما يحتاج إليه المهنئ للتعبير عن قيمة الإنجاز الإنساني، والقيمة الأسمى هي في أن لا حدود للطموح والتطلع الإنساني، هذا جانب من دواعي حضور البيت الشعري في هذه المناسبة العلمية، وهو الجانب المتعلق بالبعد الإنساني الأعمق للشعر، كما اختصره أبو الطيب بهذا البيت، جانب الإرادة الإنسانية في تطلعها الدائم وتوثبها المستمر نحو الأرفع والأعلى والأبعد، وكانت حياة الشاعر المتنبي، وهي حياة قصيرة، مثالاً فريداً لقيمة الهدف الإنساني الذي لم يرضَ بالتطلع لما دون النجوم، هذا تطلع محكوم بقوة الأمل، حيث من بعد المتنبي كان شاعر عربي آخر هو الطغرائي قد قال:"ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل" والطغرائي هو شاعر وكيميائي وسياسي.
لا تبتعد تسمية المركبة الأميركية كثيراً عن التسمية العربية التي حملها المسبار الإماراتي فكلتاهما يجمعهما الطموح. التسمية الإماراتية للمسبار هي (الأمل)، وعبّر عن مغزاها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بقوله إن من بين رسائل المسبار رسالة"هي لمن يسعون للوصول إلى أعلى القمم: لا تضع حدودًا لطموحاتك، ويمكنك أن تصل حتى إلى الفضاء". 
فيما حملت المركبة الأميركية تسمية بيرسيفيرانس. و(بيرسيفيرانس) بالعربية هي (المثابرة). قصة هذه التسمية وثيقة الصلة بفحوى بيت المتنبي. لقد جاءت التسمية الأميركية بعد مبادرة، هي الأخرى تعبر عن رفعة قيمة المشاركة الإنسانية في حركة العلوم وتقدمها. لقد كانت تسمية (المثابرة) نتاجاً لتفكير طالب أميركي في المرحلة الثانوية هو الكسندر ماذر، فقد شارك ماذر في الاستجابة لمسابقة عامة أطلقتها وكالة ناسا لاختيار تسمية مركبة ستطلق باتجاه المريخ وجرى تحديد من يحقّ له المشاركة فيها بالتلاميذ من مرحلة رياض الأطفال حتى نهاية المرحلة الثانوية في عموم الولايات المتحدة حيث اجتذبت هذه المسابقة إليها أكثر من 28 ألف مشارك تقدموا بمختلف المقترحات وبدواعي اختيار كل من المشاركين للتسمية المقترحة من قبله، فكان الفوز من نصيب مقترح الكسندر ماذر من ولاية فرجينيا. حظي ماذر بشرف تسمية المركبة (المثابرة) كما تمت دعوته وأسرته لحضور حفل إطلاق المركبة الفضائية من محطة كيب كانافيرال للقوات الجوية في فلوريدا وذلك في تموز عام 2020. كانت فكرة ماذر عن هذه التسمية قد جرى التعبير عنها في الورقة التي تقدم بها الطالب الثانوي،إذ قال فيها ماذر: "إن كل الأسماء لمركبات المريخ السابقة هي صفات نمتلكها كبشر. نحن دائمًا فضوليون ونبحث عن فرصة. لدينا الروح والبصيرة لاستكشاف القمر، المريخ وما بعده. 
ولكن، إذا كانت المركبات الجوالة هي صفاتنا كجنس (بشري)، فقد فاتنا الشيء الأكثر أهمية وهو المثابرة. لقد تطورنا كبشر، كمخلوقات كان يمكننا أن تتعلم التكيف مع أي موقف، مهما كان قاسياً. وكنا نوعاً ما من المستكشفين، لكننا قد نواجه العديد من الانتكاسات في طريقنا إلى المريخ. ومع ذلك، لابدّ لنا من المثابرة. نحن، ليس كأمة ولكن كبشر، لن نستسلم. الجنس البشري سيثابر دائماً في المستقبل". 
بهذه البراءة الجريئة بلغ الطالب الثانوي الأميركي القيمة الهائلة لبيت الشاعر العربي، حتى وإن لم يطلع عليه، وهذا بعض من اعتبارات الشعر بوصفه تاريخاً للروح الإنسانية التي تنعى انتكاساتنا كبشر حيناً وترمي إلينا بشعلة برومثيوس حينا آخر في سعينا الذي لا يكل، ونحن نحمل صخرة سيزيف، من أجل الصعود بها حتى القمة.
هل كانت براءة الكسندر ماذر هي من ألهم طاقم المركبة الأميركية ببيت المتنبي فاكتفت به كأفضل اختصار لأجمل تهنئة.