احتراماً للفيلم الهندي

ثقافة 2021/03/01
...

  ياسين طه حافظ
 
ليس اهتماماً بالسينما ولا محاولة لفهم اختلافها وغرابات وطرائف أفلامها. لكنها مسألة فكرية وجدتها تتوافر فيها. والآن سأحدثكم عن حياتنا وكيف نعيش مثلما أحدثكم عن بعض ما في الفيلم الهندي. في "أهمية الأشياء"، إشارة مهمة هي أن الفلاسفة في روما واليونان، هم أبرز من واجهوا السؤال الصعب: كيف نعيش؟ كانت الأفكار القديمة عن الحياة الفضلى مصاحبة دائماً لـ ".. من يستطيع أن يعيش تلك الحياة الفضلى ومن لا يستطيع..". ثم: إلى أي درجة يمكنني ويمكنك الاحتفاظ بحياتك طيبة؟. المفكرون في روما وفي اليونان أثاروا وواجهوا الأسئلة. لكن الأدب الدرامي هو الذي تبنى الكشف والايضاح. فقدم أمثلة لـ كيف أن تحولاً بسيطاً في ظروف الفرد يغير مسار الأحداث في حياته. والمثال البارز الذي قدمه المسرح الأغريقي هو أوديب. فقد كانت حياته تسير سيراً اعتيادياً لو لم يختصم مع رجل في الطريق ويقتله وليكتشف أن ذلك الرجل كان أباه. وأنه وفي طريقه إلى طيبة قابل الملكة وتزوجها ليكتشف من بعد أن تلك المرأة هي أمه!. إذاً نحن بصدد الصدف وما تفعله في حياة الفرد، المصادفات منها منقذة ومنها مهلكة، منها توصلك إلى ثراء وأخرى توردك الهلاك والفناء. وأظن الفيلم الهندي يعمل بهذا الوقود. يعمل بهذه المصادفات، فليس ما في الفيلم الهندي ضعف في الإخراج أو في المضمون الأدبي/ الفكري. إنما هو يتأسس على ثقافة شعبية تؤمن بقوى مجهولة تتحكم بحياة الإنسان ودائماً هذا الإنسان عرضة للعون أو للإسقاط، للبؤس أو للثروة. ما هي مصادر تلك المعتقدات؟ وما هي أسس تلك الثقافة الشعبية؟، يبدو لي ان أساسها هو أن الطبيعة وقواها، صواعق، زوابع، فيضانات، مواسم خصب وإثمار، صنعت إنساناً ينتظر ويُفاجأ، يأمل ويخشى.. وليست أحواله هذه آتية من فراغ أو توهم، فالإنسان، فرداً، يواجه ظلما، عدواناً، تسلطاً، وليس هو دائما قادراً على الصد والمطاولة، القوى الشريرة، أوالمؤدِّبة، أوسع وقادرة على إذلاله، كما بعضها قادر على رفعه وإغنائه. تحول الإنسان المدني وحظوته بسكن يحميه، ونظام يدفع عنه التجاوز ويضمن له الطريق إلى حاجته، دائماً ما يُخْتَرق، فهو ما يزال يخشى، لا الطبيعة والنوء والوحش، ولكن الحكام المستبدين وحرسهم سيافين أو مسلحين ببنادق، والتنافس أو التحارب الفكري، الأيديولوجي صراحةً، قد يذل الفرد ويصادر حياته، وقد يجعل منه متحكماً وذا سلطان. حتى الآن، ما فكر به فلاسفة روما واليونان وما يكثر منه في الفيلم الهندي، يجعلنا نحن أيضاً في حذر منه، في أمل وفي خشية مما تضمره لنا "الحياة". الأديان عموماً تقول بأن النزوع الشرير والميل إلى الخطأ في حق الناس وحق الآلهة، عمل الخير والسلوك الحكيم هي وراء ما يصيب المرء. هذا يعني أن الفضيلة الأخلاقية، هي مؤشر لما سوف يأتي خيراً أو شراً. أفلاطون وهو بشر، رفع شأن الفضيلة فوق كل شيء. ولا اعتراض فالعقل والسلوك الفاضل يدفعان شراً ويثمران احتراماً. لكن المسألة ما تزال واسعة ومديدة تفرعاتها. كثير من الفضلاء والحكماء وذوي العقل والبصيرة، صادفوا ما أوصلهم للسيف أو المقصلة. وأفراد كثر في التاريخ بلا ماضٍ أخلاقي، صاروا ولاة وحاكمين والناس تأتمر بأمرهم وتنتظر من الله الخلاص منهم. والعقل ليس الوحيد الذي يقرر مصائر العقلاء.
المسألة لا تحتاج إلى تفسير طويل معقد. المسألة ببساطة أن الإنسان يعيش في وسط وكون خارج إرادته وهما دائماً أكبر منه. المجتمع والبيئة والكون متعددات التسلط ومتعددات التحكم في حياة كائن بالكاد يجد طعاماً وسقفاً ويختفي في زاوية آمنة. وهذا حكم على أي إنسان معدماً أو حاكماً طاغوتياً. كل له حذره وخوفه وارتيابه من قوة مجهولة أو قدر يغير مصيره وكل حياته. وبعد كل ما تحقق من تقدم حضاري وأنظمة ظل الإنسان تحت رحمة ما قد يصادفه. أعني ظل الفيلم الهندي يعاد عرضه، وهنا ترسخ يأس من خلاص نهائي وتحررٍ نهائي، فهو بين رفاه ونصر او خيبة وانكسار. وصار الإيمان العام أنْ: هي الحياة هكذا في هذا الكون المجهول وعلينا تقبله بأحداثه المختلفات وأن نعهد بسعادتنا الدائمة وخلاصنا إلى الحياة الأُخرى. وعلى هذه النتيجة عاد الاعتراض البشري: إننا لا نعلم أي جوهر أبدي سيكون هناك ويستحيل تصور أشكاله، فلنتمسك بما نستطيع من مباهج على الأرض، الغد ليس مضموناً تماماً فلنضمن لأنفسنا اليوم غبطة إنسانية وإن كنا نظل بحاجة إلى من يديم النعم ويرد أو يخفف ما يربك أو ما يسيء. نحن عموماً ممثلون حقيقيون في فيلم هندي وعموماً هي حياة وهي في كل أحوالها خيرٌ من عدم.