الحجر الصحّي مع إميلي ديكنسون

ثقافة 2021/03/02
...

  إريك دي ليمان ـ آمي نوروكي
 
  ترجمة: جمال جمعة
على بعد ثلاثة أميال من نهر كونيتيكت، وقفنا في حلقة تحت شجرة في حديقة منزل إميلي ديكنسون، نقرأ القصائد، ونمرر كتابًا، على مسافة لا تبعد قدمين أو ثلاثا عن بعضنا البعض. ينتصب منزل أميرست، الذي بُني لأجدادها عام 1813، بفخر تحت أشعة الشمس، وأصوات مجموعة سياحية أخرى كانت تتسرب إلى الخارج. كنا قد تم إرشادنا للتوّ عبر المنزل وزرنا غرفة نومها المتواضعة مع طاولتها الصغيرة للكتابة جوار النافذة، وهو مكان لمشاهدة العالم وهو يمضي. تصافحنا متبادلين التحايا، تدافعنا على الدرج، وتحدثنا بحرّية في غرف صغيرة من دون مساعدة الكمامات.
كل ذلك يبدو وكأنه منذ زمن طويل. بينما أكتب هذا اليوم، لا يزال المنزل مغلقًا، والجولات السياحية ممنوعة، والزائرون المحتملون يتطلعون من نوافذهم إلى العالم. بهذه الطريقة نحن أقرب إلى إميلي ديكنسون، وإلى أسلوب عيشها المنعزل، مما كنا عليه في أي وقت مضى. ما هي الدروس التي يمكن أن تقدمها لنا نابغة الأدب الأميركي خلال هذا الوقت من الحجر الصحي الدائر والعزلة المتكررة؟.
ولدت ديكنسون عام 1830، وحصلت على تعليم عالٍ في وقت مبكر من حياتها، واستندت الى المعرفة التأسيسية في الأدب، وعلم النبات، والتاريخ، وحب التعلّم الذي صقل خيالها، خاصة بعد انتهاء تعليمها الرسمي في سن المراهقة. التحقت بكلية ماونت هوليوك للإناث لفترة قصيرة، قبل أن تؤدي الأمراض ووفاة المقربين منها إلى أنها ستدرس في المنزل لبقية حياتها. كانت تلك بداية عزلة ذاتية أطول وأكثر عمقًا.
لطالما كانت «العزلة» مفردة رئيسة في قاموس نيو إنجلاند لعدة قرون، إذ تعود على الأقل إلى ويليام بلاكستون «قاض ومؤلف»، الذي عاش بمفرده في كوخ في البقعة التي تعرف اليوم باسم بيكون هيل، ومن ثم فرّ إلى براري رود آيلاند هربًا من تزايد عدد السكان في بوسطن. لكن ثمة اختلافات بين الرهبان اليانكيين الكلاسيكيين وديكنسون. لم تكن هي بالضرورة تكره الناس أو التفاعلات الاجتماعية في حياة مزدحمة. هناك شيء آخر أخذها إلى غرفتها، وما زال الناس يتجادلون اليوم بشأن ماهية ذلك الشيء، وكل جيل جديد يتبنّى نظرية جديدة.إحدى هذه النظريات مألوفة بشكل غير مريح. خلال فترة حياتها، تعامل العالم مع طاعون آخر، طاعون أتلف رئات العديد من شعراء القرن التاسع عشر، مثل جون كيتس وإليزابيث باريت براونينغ، فضلا عن أشخاص أقل إبداعًا. عانت ديكنسون من نوبات السعال والمرض بين عامي 1846 ـ 1852 والتي كانت تُعالج بالغليسرين من قبل متخصصين في بوسطن كأعراض للتدرُّن الرئوي «السُّلّ» ـ التدرّن بطيء الحركة لكنّه مميت. كان والدها، إدوارد، يخشى من أن تصاب به منذ الطفولة فصاعدًا، ويشير البعض إلى هذا الخوف التأسيسي بوصفه أحد جذور عزلتها الذاتية. لمدة عقدين على الأقل، بقيت داخل المنزل، وتحدثت إلى الناس من خلال الأبواب والنوافذ، وقضت وقتًا مع القليل من خارج دائرة أسرتها، تمامًا كما نفعل نحن اليوم.
ومع ذلك، عندما تكتب عن العزلة، لا يبدو أنها خائفة. ها هي في مختارات مأخوذة من مجموعتها الشعرية (ليتل براون، 1924):
 
 هناك عزلة الفضاء،
 عزلة البحر،
 عزلة الموت، ولكن هذه
 ينبغي أن تكون جماعة،
 قياسًا بهذا المكان العميق،
 بتلك الخلوة القطبية،
 الروح تعلن لنفسها:
 الحدود لا متناهية.
 
بدت وكأنها تستمتع بوحدتها المختارة، فكتبت إلى ت. و.هيغينسون بأنها «لم تفكّر قط في تصوّر» أنها أرادت حياة «اجتماعية». كان لديها أقرب الناس إليها، وحديقتها، وفنها الخاص. وما زال بإمكانها التفاعل مع العالم: أرسلت آلاف الرسائل إلى أصدقاء أمثال هيغينسون. قدرتها على التركيز ووضع التجربة في كلمات تكثفت عبر عدسة مراسل استثنائي. بعد كل شيء، وكما كتبت: «المسافة ليست مملكة لثعلب/ ولا للترحال لطائرٍ/ حطّ، المسافة هي حتى/ ذاتك، يا عزيزي!».يحبّ المرشدون السياحيون في منزل ديكنسون أن يروا كيف أنها أثناء زيارة ابنة أختها ماتي، أخذت الفتاة الصغيرة إلى غرفة النوم وأغلقتها بمفتاح غير مرئي، قائلة، «إنه مجرد منعطف، وحرية». كوننا منعزلين يجبرنا على التفكير في الحرية بطرق جديدة والتفكّر في معانٍ تتجاوز كونها سياسية فحسب. تكتب: «العبودية إحساس/ والحرية كذلك». الحرية في أذهاننا، في خيالاتنا.بطريقة ما، يجعلها هذا شاعرة «مناهضة للحجر الصحي»، بقصائد تحتفي بالهواء الطلق، تستمد التفاصيل من التجربة الإنسانية الشاملة، والتي هي غير معزولة ورحبة لدرجة أننا قد نتساءل كيف أنها انبثقت من إنسان معتزِل. إن الشخصية أو الراوية في قصائدها ليس ناسكًا ويمتلك حيزًا فسيحًا وعميقًا كالزمن نفسه. قصائدها دليل حيّ على أن «الدماغ أوسع من السماء»، كما كتبت.
حتى عندما تتحدث عن الموت، أو تضيق القصيدة بالغرفة الداخلية، فنادرًا ما تكون النبرة حزينة. كتبت في إحدى القصائد: «كل ما نفقده يظهر في جزء منا/ الهلال لا يزال باقياً/ الذي مثل القمر، في بعض الليالي العكرة/ يستدعيه المدّ والجزر». نادرًا ما تجعلنا قصائدها نبكي. بدلاً من ذلك، تجعلنا نفكر. إنها موجودة باستمرار على مستوى مجازي، تتناول كل ما هو صغير ومحلّي وتجعله كبيرًا وكونيًّا.
بسبب هذا المزيج من الظروف والأسلوب، فهي شاعرة مثالية بالنسبة لأولئك الذين يعانون من القلق والارتباك في هذه الجائحة العالمية. غالبًا ما تتحدث قصائدها عن توهان الزمان والمكان الناجم عن العزلة؛ أحد الأمثلة تغنّي «شوارع الصمت العظيمة»:
 
وفقًا للساعات كان الوقت صباحًا، وكذلك ليل
الأجراس تنادي من مسافة بعيدة؛
لكن الوقت لا أساس له هنا،
في زمن مزفور.
 
ومع ذلك، فكل هذه الأوقات ستنتهي في خاتمة المطاف. كما تكتب في قصيدة أخرى، «عجلة في الظلام» وإننا «لا يمكننا رؤية الخطاب» على هذا «الطريق المهجور»، يمكننا أن نتشجع، لأنه «رغم ذلك نمتلك كل الطرق/ الصفاء في النهاية».
كيف ستبدو هذه النهاية؟ كم منا سيخرج من هذه الجائحة بمخاوف عميقة من التفاعل الاجتماعي وينتهي به الأمر بعزلة ذاتية لسنوات؟ ربما ستهز الأجيال المقبلة في المستقبل رؤوسها لتبدي استياءها على حجرنا الصحي الذاتي، كما يفعل البعض على ديكنسون اليوم. ربما، ومع ذلك، يمكننا أن نتجاوز هذا ونحن أقوى من ذي قبل. كتبت «الأزمة جذابة» حينما نكون «على الجانب الآخر» منها.
في غضون ذلك، ثمة الكثير من الأشياء التي يمكن أن نتعلمها من شعرها وحياتها. لا ينبغي أن نسمح للعزلة والحجر الصحي بإطفاء الشموع في داخلنا. يمكننا أن نتعامل بحب مع مَثابات الرتابة، والعادات الصغيرة، والاهتمام الحريص بالتفاصيل. يمكننا صقل علاقات أقوى مع أولئك الذين هم أقرب إلينا. ويمكننا أن نبتكر شيئًا رائعًا وحقيقيًا، قد يضيء نورًا يصل إلى الأجيال المقبلة، كما وصلت قصائد إميلي ديكنسون إلى أجيالنا.
 
Estuary Magazine