رسائل بثّها محمود أحمد السيّد في «مصير الضّعفاء»

منصة 2021/03/14
...

  حسين محمد عجيل
تشكل رواية «جلال خالد» الذورة الفنية في أعمال محمود أحمد السيّد، رائد القصة العراقيّة (1903 - 1937)، بعد محاولات مستميتة استنزفت طاقته الحيوية وكل سنيّ حياته القصيرة لبلوغ هدفه الاستثنائيّ؛ وهو وضع الأدب القصصيّ على خارطة الإبداع في بلاد ظلت تتنفس الشعر طوال قرون مديدة.
ولأجل بلوغ هذه الذروة، كان لا بد للسيّد الذي تحل هذه الأيام الذكرى 118 لولادته، من مثابات نصيّة تجريبيّة يكتشف فيها قدراته ويتلمس من خلال أصداء تلقيها طريقه، كان أولاها قصته الطويلة البِكر «في سبيل الزواج» الصادرة سنة 1921، التي زامنت ميلاد الدولة العراقيّة، تلتها بعد عام قصته الطويلة أيضاً «مصير الضعفاء»، وسنحاول في هذه المقالة قراءة شفرات رسائله التي بثها في «مصير الضعفاء»، وتلمس دوره الرّائد لأجل بلورة هوية وطنيّة في وعي قرّائه، وجعل أمهات مدن البلاد رموزاً في ضمائرهم، التي كانت تتربص ببعضها دول مجاورة لابتلاعها، وإنها لمفارقة مؤلمة أن يدور الزمان بالبلاد دورة كاملة مداها قرن كامل، فتعود إلى نقطة الصفر نفسها، وتواجه من حيث ابتدأت التحدي القديم، وكأنها في دورة سديميّة مفرغة.
إلى حسين الرّحّال «الحرّ الأبيّ»
نشر السّيّد، المولود ببغداد يوم 14 آذار 1903، «مصير الضعفاء» بتوقيع (السّيّد محمود أحمد البغداديّ)، وطُبعت في مطبعة الاعتماد بمصر، بنفقة المكتبة العصريّة بسوق السّراي في بغداد.
أهدى السّيّد عمله هذا إلى صديقه «حسين بك الرّحّال»، الذي وصفه بـ «الحرّ الأبيّ». وهو شّخصيّة فكريّة ماركسيّة، التفّت حولها جماعة ذات ميول اشتراكيّة من الأدباء الشّباب وكوّنت جماعة (السّفوريّين) المنادين بحريّة المرأة وأصدروا دوريّة (الصحيفة) سنة 1924 لعرض أفكارهم والدّفاع عنها، وكان للرّحال تأثير عميق على مسار حياة السّيّد الفكريّة وتوجّهاته الفنيّة، إذ سبق له أنّ قدّم قصّته الطّويلة الأولى «في سبيل الزّواج» مبشّراً به كاتباً شابّاً واعداً، تستحقّ محاولته الدّعم من القرّاء.
ولكن في باكورة الإنتاج الأدبيّ، الذي يُكتب بلا تقاليد سابقة من جنسه في البلاد، لن يكون هذا التّأثير الفكريّ حاسماً ولا المؤازة كافيةً لتجويد العمل الفنّيّ، لذلك كان متوقّعاً أن يكون رأي السّيّد سلبيّاً في عمله هذا بعد سنين، وهو ما اعتاد أن يفعله حيال معظم كتاباته، كلّما قطع شوطاً ما في التّطوّر الفنّيّ، وازدادت خبراته الحيّاتيّة، واتسعت آفاق تجربته، وتوسّعت قراءاته واطّلاعه على التجارب العربيّة في مصر والشّام، فضلاً عن المترجم من الآداب العالميّة.
 
تأثير ألف ليلة وليلة
تصعب اليوم مجاراة السّيّد في تجنيس «مصير الضعفاء» بأنّها رواية، فهذا المصطلح لم يكن قبل قرن من الزمان يعني ما يُفهم منه اليوم، ويمكن عدّها في أحسن الأحوال قصّةً طويلةً نسبيّاً. وعلى الرّغم من اعتراف السّيّد في مقدّمته لها بالنّقص الذي اعترى قصّته الطّويلة الأولى «في سبيل الزّواج» وسعيه لتجاوز هذا النّقص بقوله: «اتضح بعد ظهورها أنّها ناقصة من عدّة وجوه، حتّى استخفّ بها البعض، ولم يستحسنها البعض الآخر، ولكنّ ذلك لم يُثبِط من همّتي شيئاً، بل قلتُ: لأُعالجن هذا الموضوع، فأكتبن فيه حتّى يتسنى لي النّجاح»، مردفاً بثقةٍ وفخرٍ مشوب بالأمل: «هذه ثاني رواية أخرجها لبني وطني العراقيّين، ولعلّها خير من الأولى»، لكنها لم تتخلّص برغم كلّ محاولات التّجاوز من التّقاليد الحكائيّة العربيّة القديمة، ومن نمط السّرد في قصص ألف ليلة وليلة، الذي يبتدئ بسطوة الرّاوي العليم المتحكّم في سير الأحداث وتدّخلاته للتّعليق عليها وتفسيرها، وبتقنية السّرد، ولا سيما توقّف تدفّق خطوط الأحداث المتوازية، لسرد تطوّرات خطّ بعينه، ثمّ في كثرة المصادفات التي تحدث للشّخصيّات، وكذلك في غلبة الرّوح الرومانسيّ على القصّة كلّها، والاستخدام المفرط للشّعر وتمثّل الشخصيّات به في مواقف كثيرة، وإذا كان أبطال ألف ليلة وليلة أقرب زماناً إلى عصور الفصاحة، والأبطال الرّئيسون في قصّة السّيّد متعلّمون في المدارس، فإنّه من المستغرب أن يتمثّل أميّون فقراء في قصّته نفسها بأبيات عربية فصيحة كقول والد عبدان لولده متمثّلاً:
اصبر على نُوَبِ الزّمانِ فإنّها مخلوقةٌ لنكايةِ الأحرارِ
وقد تنبّه السّيّد إلى ذلك وعالجه في قصّته القصيرة «رصاصة في الفضاء» المنشورة في مجلّة (الرسالة) القاهريّة سنة 1936، التي تدور أحداثها في مرقص الهلال ببغداد، حين ينقل إنشاد الرّاقصة للشّعر الشّعبيّ، على أنّ النّهاية المأساويّة لقصّة السيّد الطويلة- على ما فيها من مبالغة ميلودراميّة- خالفت معظم نهايات قصص ألف ليلة وليلة ذات النّهايات السّعيدة.
 
رسائل العتبات النّصّية
ولنا أنْ نتساءل عن مغزى هذا الإصرار الذي يدفع شابّاً عراقيّاً للإمعان في مواصلة التّجريب بكتابة القَصص على غير مثالٍ سابق يحتذيه حتّى بلوغ النّجاح النّسبيّ، مع توقّفات زمنيّة مختلفة شهدتها تجربته القَصصيّة للمراجعة والتّعلّم وإعادة المحاولة بحماس، ويتحمّل لأجل ذلك الكثير من الاستخفاف به والزّراية بجهده، وما الرّسالةُ التي أراد السّيّد أن يوصلها؟ ومَن هم المستهدفون برسالته تلك التي تحمّل لأجل إبلاغها كلّ هذه المتاعب؟ وما الذي يهمّنا اليوم من هذا العمل الأدبيّ بعد مرور قرن على صدوره؟ إنّ الإجابة على هذه التّساؤلات يمكن تلمّس أبعادها في رسائل بثّتها بوضوحٍ العتباتُ النّصّيّةُ التي وضعها المؤلّف قصداً، وأوّلها العنوان الدّالّ «مصير الضّعفاء»، ثمّ وضع لقب «البغداديّ» على نحوٍ مميّز في سطر خاص تلا اسم الكاتب، وتوصيف العمل بأنّه رواية غراميّة «اجتماعيّة عراقيّة»، ثمّ بيت الزّهاويّ الذي تصّدر الكتاب تحت عنوانه:
النّواميس قضتْ أن لا يعيش الضّعفاء إنّ مَن كان ضعيفاً أكلته الأقوياء
الذي ضخّم من دلالة العنوان وجسّم توصيفه الاجتماعيّ، ثمّ بعتبة الإهداء: «إلى الحرّ الأبيّ.. حسين بك الرّحّال» الذي مثّل في ذهنه الأنموذج المبتغى لشباب البلاد، وبعباراته في مقدّمته للكتاب التي سبق أن أوردتها، ومنه هذه الجملة الكاشفة: «هذه ثاني رواية أخرجها لبني وطني العراقيّين».
إنّ هذا الإمعان في مواصلة طريق غير معبّد، الذي صاغ محمود أحمد السّيّد من عذاباته رسائلَ وشفراتٍ تنويريّةً تحتفي بالوطن والحريّة وقوّة الإرادة، لم يكفّ عن بثّها بكلّ الطّرق، مصدره في رأيي ثلاثة عوامل ظلّت تمدّه بوقود لا ينفد، متجاوزاً كلّ ما واجهه من عقبات وعاناه من آلام، أوّلها الرّغبة التي ملكت عليه وجدانه في خلق نوعٍ أدبيّ جديد ببلاده سبقتها إليه مصر، وجده معبّراً حقيقيّاً عن ذاته المعذّبة القلقة، ووسيلةً لنشر أفكاره الإصلاحيّة، وهو هنا بتوجّهه الكلّيّ لفنّ السّرد يمثّل حالةً فريدةً في الأدب العراقيّ كلّه، فيما أحسب، حين لم يتّجه إلى ممارسة نوعٍ آخر من الأدب بعد تجربة غير موفّقة في كتابة الشّعر، كما حصل ويحصل مع كثيرين في أجيال مختلفة، لم تسعفهم إمكاناتُهم على الإبداع الشّعريّ، فتحوّلوا إلى مجالٍ أدبيّ آخر أكثر استجابةً لقدراتهم الذّاتيّة، إذ لم يُعرف- في حدود ما وقفتُ عليه- عن محمود أحمد السّيّد أنّه كتب الشّعر أو حاول ذلك، وهذا يمنح تجربته الرّائدة بُعداً آخر وقيمةً مُضافة.
 
وعي تنويريّ، ونقد استثنائيّ للمنجز
وثاني هذه العوامل، حالةٌ استثنائيّةٌ من النّقد الذّاتيّ التي تستعتر في داخله حيال ما قدّم من أعمال أدبيّة، بخلاف ما يُعرف عن الأدباء، ولا سيما الشّباب، من نرجسيّة وروح إدّعاء تحول دون إقرارهم بضعف منجز سابق لهم، ويمكنني أن أقول إنّه ندر وجود شخصيّة في تاريخ الأدب العراقيّ توفّرت على مثل هذا النّقد الشّديد للذّات وعدم الرّضا على المنجز كالذي مارسه السّيد على تجربته، وهي حالة منحت عمره الأدبيّ القصير الذي لم يتجاوز الستة عشر عاماً، أضعاف بعدها الزّمنيّ، فأحرق المراحل فيها بسرعة، ووصل إلى تخوم الاكتمال الفنّي النّسبيّ وهو في ذورة شبابه، ولو قُدّر له أن يعيش المعدّل العامّ للعمر الطّبيعيّ في البلاد، لحقّق في هذا النّوع الأدبيّ الجديد كثيراً من أمانيّه.
أمّا العامل الثّالث فهو وعيٌّ فكريٌّ تنويريٌّ حادٌّ، تجاوز فيه عمره الغضّ حين كتب- وهو لم يتمّ بعدُ الثّامنة عشرة من سنيّ ربيع عمره- قصّته الطّويلة الأولى «في سبيل الزّواج»، التي عبّرت، على ما فيها من ضعف فنّيّ متوقّع سارع لإعلانه، بجرأة ووضوح لافتين عن تطلّعاته وسعيه إلى تحرّر المرأة الشّرقيّة، مستثمراً تجارب رحلته المعرفيّة المبكّرة إلى الهند، التي تتشابه ظروفها على نحو كبير مع ظروف العراق، إذ يرزح البلدان الحضاريّان كلاهما تحت ظروف قاسية من القهر الاجتماعيّ والطّبقيّ، ضحيّته الكبرى النساء، والتّخلّف الاقتصاديّ والعلميّ، والاحتلال الأجنبيّ نفسه، ثمّ يردفها بعد عامين بـ «مصير الضّعفاء»، التي حاول أن يشخّص فيها نتائج العلّة الأولى فيمن يتوجّب أن يمتلكوا القوّة والطّاقة الحيويّة لأجل تغيير حال البلاد، وهي رسائل ظلّ يشتغل على صياغتها بوعيٍّ يتعاظم في أعماله الأدبيّة التّالية الأكثر نضجاً على المستوى الفنّيّ: رواية «جلال خالد» والمجموعتين القصصيّتين «الطّلائع»، و»في ساعٍ من الزّمن»، التي كرّسته رائداً حقيقيّاً للقصّة العراقيّة برغم وفاته الصّادمة بالقاهرة يوم 10 كانون الأوّل 1937 وهو في الرّابعة والثلاثين من عمره، بعد إجرائه عمليّة جراحيّة في الكبد.
 
رمزيّة الموصل
ولنعد الآن إلى الخريطة الجغرافيّة لتحرّك أبطال روايته الثّلاثة، ونقارنها بخريطة العراق السّياسيّة قبل قرن من الزّمان، عقب خمس سنين من انتهاء الاحتلال التّركيّ للبلاد الذي دام أربعة قرون كاملة، وابتداء الاحتلال البريطانيّ الذي قدّر له أن يدوم بأشكاله المختلفة أربعة عقود كاملة أيضاً، فأبطال القصّة التي يُفترض أنّها تجري في العهد العثمانيّ، هم: إبراهيم وحسن وعبدان (الذي سمّاه عبد الله في أحد العناوين سهواً)، جمعتهم مدرسة أميريّة في بغداد أطفالاً، ثمّ فرّقتهم وأسرهم ظروفٌ قاهرةٌ اقتصاديّةٌ في الغالب، ليذهب الأوّل إلى الموصل فيصبح ضابطاً تحت إمرة باشا تركيّ متعجرف اتخذه نديماً له، ثمّ أودعه السّجن حين فاتحه برغبته الزّواج من شقيقته، وينتقل الثّاني مع أسرته إلى النّجف ليدرس العربيّةَ فيها، ويعود إلى بغداد شابّاً يشتغل في الصّحافة والمشاريع الخيريّة ليصطدم مع تاجر جهول أدى شجار مع رجاله إلى إيداعه السّجن، أمّا الثّالث فتوجّه مع أبيه إلى البصرة ليصبح عاملاً صغيراً يعمل لدى أحد البكوات فيها، واصطدم برغباته حين أراد استغلاله ليوقع بعض فتيات المدينة فرائس في حبائله، وأدى الأمر إلى سجنه كحال صاحبيه، ليجمع الأصدقاءَ الشّبّانَ الثّلاثةَ سجنٌ في الموصل. وهنا تتضح جغرافيّة العراق كلّها بولاياته الثّلاث بغداد والموصل والبصرة، مع التّركيز المباشر على رمزيّة الاجتماع في الموصل، وكانت الأخيرة- إبّان كتابة القصّة- ولايةً متنازعاً عليها بين العراق وتركيا، ولم تُحسم عائديّتها إلى العراق إلّا بعد إجراء استفتاء فيها، صوّت فيه غالبيّة أبناء الولاية من العرب والكرد والتّركمان والسّريان والإيزيديّين واليهود والشّبك والكاكائيّة للانضمام إلى بلدهم التّاريخيّ العراق.
 
رسائل لتخصيب الوعي
وهكذا تتجلى الرّسالة الرّمزيّة ذات الطّابع الوطنيّ التي حاول هذا الرّائد القَصصيّ أن يجذّرها لتخصيب وعي قرّائه، حين يلمّ شتّات العراق المتناثر بمدنه التّاريخيّة الكبرى في نسيج سرديّ جامع للمصائر في جغرافيا الوطن العريق- الذي يصرّ بعض المحسوبين من أبنائه اليوم على أنّ الانكليز اختلقوه من العدم بخلاف وقائع التاريخ كلّها- مخفياً هذه الرسالة تحت غلالة من الأحداث التي اصطنعها، ولعلّ هذه الاصطناع المستقى من ألف ليلة وليلة كان مقنعاً في وقته قياساً بالحسّاسيّة القرائيّة لذلك الجيل، وليس كما نراه نحن اليوم بعد قرن كامل. فلم يكن عفويّاً أن يختار محمود أحمد السّيّد الموصلَ المهدّدةَ بالإلحاق بدولة أخرى، لتكون الموئل الذي يجتمع فيها أبناء البلاد من أركانها الثّلاثة. وهنا تتّضح واحدة من مآثر السّيّد التي قدّمها في هذا العمل الأدبيّ المبكّر، مُسهِماً ببلورة ملامح الهويّة الوطنيّة في وعي الشّباب، وهم الفئة الأكثر استجابةً لتلقي الرّسائل وتخصيب الوعي، والأكثر قدرة على التّغيير.
كما تتضح النّزعة الاجتماعيّة التي ينتحيها السّيّد في كتاباته كلّها، حين جعل خصوم هؤلاء الشّباب ينتمون طبقيّاً إلى فئات مستغلِّة منحها الأجنبيّ السلطة المطلقة وألقاب الباشا والبك لتمارس أبشع أنواع التّجاوز على أبناء البلاد، وتتضح كذلك الفئة الشّابة التي استهدفها الكاتب من خلال اختيار ثلاثة شبّان في بطولة جماعيّة، العامل والصّحفيّ النّاشط في مجال التّرقي الاجتماعيّ والضّابط، وهو اختيار ذكيّ لقوام مجتمع يعمل ويفكّر ويتطوّر ويحمي نفسه بنفسه، ولعلّه أرادهم أن يكونوا على مثال الشّابّ «الوطنيّ الحرّ» الذي أهدى كتابه هذا إليه، ولم ينس السّيّد، وهو الكاتب والرّائد التّنويريّ السّفوريّ، أن يضيف إليهم الضّلع الرّابع (زهراء) الفتاة الشابّة الجريئة التي حلم بأن تكون العراقيّات من سنّها على مثالها، وتبدو لي (زهراء) النوّاة المخصّبة التي استلهمها وطوّرها القاصّ والرّوائيّ الموصليّ الرّائد عبد الحقّ فاضل لتكون (صفيّة) الشّخصيّة الرئيسة الثّانية في روايته «مجنونان».
ولو عدنا إلى جغرافيا المدن التي تدور فيها الأحداث لوجدناها أربعاً (البصرة، النّجف، بغداد والموصل) بعدد أبطال القصّة الأربعة (حسن، زهراء، عبدان، وإبراهيم). وهذه الأسماء لا تخلو من دلالات، وإبراهيم منها بالذّات، الذي يمثّل الشّخصيّة المحوريّة الجامعة للشّخوص الرّئيسين، فهو العاشق لزهراء والصّديق الحميميّ الأقرب لحسن وعبدان اللّذين يلقّبهما بالفُراتيّ والعربيّ، لم يأتِ اسمه اعتباطاً، فهو يتوفّر على دلالات مفتوحة لأقصى حالات التّأويل في بلاد غالبيّتها السّاحقة من أتباع الدّيانات الإبراهيميّة الثّلاث، فقد كانت تضمّ فضلاً عن الغالبيّة الإسلاميّة المكوّنة من العرب والكرد والتّركمان، أكبر تواجد لليهود الشّرقيّين في المنطقة كلّها، كما تضمّ ولا تزال نسبة مؤثّرة من المسيحيّين، على أنّ دور هذين اللّونين من العراقيّين على المستوى الحضاريّ، كان آنذاك أكبر من حجمهما السّكّانيّ بأضعاف.
 
بصمة الختام
إذا وضعنا في الاعتبار غياب التّقاليد الفنّية لهذا الضرب من الأدب حين كتب السّيّد قصّته هذه، يمكن عدّ نهايتها المأساويّة التي قُتل فيها شخوص القصّة الأربعة، بصمته الشّخصيّةً في العمل برغم ما سجّلناه عليه آنفاً، فقد أرادها صادمةً لوعي قرّائه الذين توقّعوا أن تأتي على مثال النّهايات السّعيدة في ألف ليلة وليلة، بعد أن هرب أبطاله من السّجن وانضمّت إليهم زهراء في المشهد الأخير، فقد أنّهى الرّاوي العليم القصّة بعبارة «قُتلوا كجناةٍ مجرمين، ولكن ما هو ذنبهم؟ وما هو جرمهم؟ الضّعف! الضّعف!».. وهو هنا بهذه التساؤلات المتكرّرة يضرب على وتر حسّاس لدى المتلقّي، وهدفه أن تبقى آثار هذه الصّدمة في الذّهن طويلاً، أملاً في أن تسهم بإثارة الأسئلة المبشّرة بصحوة الوعي. وعلى الرّغم من أنّ هذا العمل يعدّ من بواكير أعمال السّيّد، لكنّ ما يُحسب له فنّيّاً أنّه بذر بمهارة وحرفيّة لهذه النّهاية منذ البدء، وربط ختام القصّة بعتباتها النّصّيّة الأولى، فالنّهاية هذه كانت ترجمةً دقيقةً للعنوان «مصير الضّعفاء»، وتمثيلاً صادقاً لبيت الزّهاويّ في صدر الكتاب «...إنّ مَن كان ضعيفاً أكلته الأقوياء»، وهي تتواشج مع الأهداء.
واليوم، وبعد ما يقارب المئة عام على صدور «مصير الضّعفاء» وما تلاها من أعمال تكرَّسَ فيها خطاب محمود أحمد السّيّد التّنويريّ كما تعزّز نضجه الفنّيّ، لا تزال رسائل هذا الرّائد القَصصيّ الذي رحل شابّاً دون الأربعين بكثير، كنظيريه الرّائد الشّعريّ بدر شاكر السّيّاب والرّائد التّشكيليّ جواد سليم، تمارس فعلَها التّنويريّ في ترسيخ الوعي بالهويّة الوطنيّة لدى أجيالٍ من متلقّيه، وفي صدارتهم الشّبابُ من الجنسين المستهدفون أبداً، نُظراء حسن وزهراء وعبدان وإبراهيم، الذين لم يُتعب حناجرهم ولا أجسادهم ولم يضعف من إرادتهم، عقدٌ كاملٌ أمضوه تحت نصب الحرّيّة ببغداد وفي ساحات المدن والبلدات، منادينَ باسم البلاد التي وجدوا حتّى ظلامها جميلاً، مستلهمين بما قدّموا من مئات الشّهداء وآلاف الجرحى، رسالةَ الرّوّاد الكبار في أن يستعيد وطنُهم الرّوح والدّور والمكانة، حتّى لا يكون مصيرُه ومصيرُهم ما حذّر منه الزّهاويّ ومحمود أحمد السّيّد في الأعوام الأولى لتأسيس الدّولة العراقيّة الحديثة.