ياسين طه حافظ
يقول ايسيا برلين: "من نسيج الإنسان الفاسد لم يصنع أي شيء مستقيم أبداً..." وهذا منطلق أخلاقي مثلما هو منطلق فكري صرف، فنحن أيضاً لا نستطيع الوصول إلى فكر نيّر من فكر تأسس على خطأ. وبهذا لا ننتظر نتائج خيّرة. النتائج ستكون خطأ أو شريرة. فبعض الأفكار متجاوزة المعقول سبّبَ اتباعها صدمة وضراً واسعاً اكثر مما سببته تعاليمها. قل هذا عن الفاشية مثلا كي لا نثير ضغائن إذا ذكرنا غيرها أيضاً.
قد نتساهل في ادانة الفرد الذي اختارها بأنه وقع تحت جذب الحب لها لا تحت جذب الصراع والدمار الذي صارت تؤدي إليه، لكننا نقول هي ليست جاذبية أرضية ولا قدراً سماوياً.
النتائج جاءت من سلوك. والسلوك جاء من تكوين بيولوجي ونفسي ونزوع نفعي اكثر استفحالاً.
والفكر عموماً لا يستقر ثابتاً في مكان هو يتحرك بحركة الإنسان وينتقل حتى يسم مجموعات، حشوداً وأحياناً شعباً.
وفي تماسه، كأية مادة مخصبة يكون منتج افكار وهذه تتنامى إلى تطور فكري. حتى الآن نحن في مسيرة الصلاح والجدوى.
وبعيدين كل البعد عن التشويه والصِدام لكن، وكما انتبه لهذا هيغل، يتوقف التقدم وتحرير النفس الإنسانية عند انتصار العقل المتجسد في الدولة على أشكال أخرى من التنظيم الإنساني. معنى الكلام حين يستوطن فكر ما بقعة – أو وطناً-، يسحبه إليه، يتبناه، يوقف حركته، ليستثمره، هنا صارت، للفكر صفة جغرافية، فهو ألماني مثلاً أو هو روسي أو هو صيني، وثمة انتصارات فهو انتصار الجرمانية أو النازية.
وهذه قد تمضي إلى ازاحات شرسة أو اكتساحات يترتب عليها إبادات وتوسعات جغرافية لتكامل
سطوته.
هو لم يبق فكراً إنسانياً عاماً
هو صار فكراً حكراً لدولة، لتنظيم، ومن هذه لحزب. صار صانع
عزلة وصانع عدوانية لما ولمن
يقاومه، لمن لا يتخلى له عن مكانه ليحتله.
ونحن نعلم كيف ديسَ على قيم بل على حضارات حينما استحوذت فئة (تنامت من بعد) على فكر وأرفقته بالسلاح والحركة.
لكن لا نرى حتى الآن حضوراً للقيم المتوارثة والحية تتصدى لهذا الغزو أو التوحش أو كما يسميه أصحابه القيم الجديدة! القيم يحملها بشر والبشر صار يتعرض للموت والاكتساح، هنا يحضر الفهم الوجودي، اضطراراً، أو شعوراً بالسوء واللا ردّ : لا توجد قيم إنسانية".
ولأننا نتابع حركة الفكر جغرافياً وتوسعاته فنحن نقول لا توجد قيم إنسانية عامة ولكن توجد قيم آنية ذوات سمة جغرافية، فهي ألمانية أو أوروبية.. القيم الإنسانية المنسجمة تتصل باليوتوبيا.
وما بقي في مناطق العالم هي القيم المتنافرة أو المتضادة أو التي – وهذا هو الخرق الأخلاقي- تتحرك متآلفة والسلاح. هل نأمل بعد بعالم يعيش ناسه متآلفين وبأفكار متعاطفة ليس لها انتماء جغرافي تعمل لمصلحته؟، هل نستطيع اليوم أن نقول لأميركا لا نريد أفكارك أن تكون أميركية؟ هي تبتسم برضا إذا كان المقصود أن تتحرك أفكارها لتغزو أمكنة أخرى، أن تتوسع جغرافيتها. وإلا فالجواب: لكم أنتم أيضاً أفكاركم. والعالم مختلف الافكار.
هل هذا يعني العودة في التاريخ ونترك المدى الإنساني الذي صرنا (نحلم) فيه؟، لكن أما تجاوزنا اليوم"نحلم فيه" إلى "نسعى اليه"؟ هذا الحَرَج، هذا الطريق الشائك، جعلنا ننتقل من السياسي ومتطلباته إلى الفكر الإنساني ومتطلباته.
ونأسف إذ نرى الفكر الإنساني بحضور الرأسمال يفقد انصاره ويصبح فضيلة إنسانية، يصبح امتيازاً أخلاقياً ليس ضرورياً أن يكون مبدأ أو عقيدة. هذه خسارة وتراجع في التطور الإنساني.
تظل فيالق مجاهدة تدفع الشرور عن الانساني لا تنتصر عليه نهائياً. ثمة من يفكر بالأرض ومن يفكر في مداه الجغرافي، في جغرافيته. وقد يكون ظهور الطبقات محاولة دفاع، والدين قبلها محاولة دفاع، والبيولوجيا البشرية محاولة دفاع، هذه مشتركات إنسانية وهي بحكم ذلك موحِّدة. وهنا الاقتصاد ينظر لنا شزراً من بعد.
هو يقول: الشركات متعددة القوميات، اتحادات الرأسمال، مشاريع استثمارية وعلمية مشتركة –من دولتين، ثم ثلاث ثم أربع - هذه كلها لن تذوب في المدى الخيالي لادعاءاتكم.
لهذه مرجعياتها الجغرافية!، لكن الإنسانية بالرغم من كل ما يهددها، تنظر للكوكب الذي تعيش عليه بشرف، وبما يوقف الغزوات ولا يوقف الأفكار.
ما يؤسف أن حالاً كهذه، شبيهة بها، صحبت البشرية. إن استمرار حضورها هو مبعث أسف أن الإخلاص لمثال ما، لمعتقَدٍ ما، خطأ كان أو صواباً يستحيل حقائق يكون الناس حيالها مستعدين لخوض حروب، وحرق مدن ودمار أرض. هذا يعني اكتساح المثل والقيم التي تعبت البشرية قروناً لانتاجها. ثمة سوء، وباء ينتقل من منطقة جغرافية لأخرى لتصفية فكرها أو إيمانها.
وتبقى المحنة محنة ناس قِلّة في الطرفين يؤمنون بالقيم الإنسانية الشاملة. أكثر الأدب، روايات وأشعارا، هي مراثٍ لما ضاع منا، لما تعرض لأذى...