التفسير الدستوري والمحكمة الاتحاديَّة العليا
منصة
2021/03/30
+A
-A
د. حسن الياسري
إنَّ أغلبيَّة المتحدثين طيلة المدة المنصرمة من محامين وقضاة ومحللين كانوا يقولون بعدم جواز دخول خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون في توليفة المحكمة الاتحاديَّة العليا، وإنَّ من اللازم أنْ تقتصر المحكمة على القضاة فقط، وإنَّ خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون ما هم إلا خبراء فنيّون ومستشارون لا أكثر. والسبب في ذلك، بحسب رأيهم، إنَّ الدستور أطلق على الهيئة اسم (المحكمة) وعبّر عنها بأنها هيئةٌ قضائيَّة مستقلة، فهي إذاً محكمةٌ يجب أنْ تضمَّ قضاةً فحسب، ولا يجوز أنْ يدخل فيها أي فردٍ آخر من غير القضاة.
بادئ ذي بدء أجدُ من الضروري إيراد النص الدستوري مثار الاختلاف؛ ليعلم القارئ عن أي أمرٍ نتحدث. وهذا النص هو المادة (92) من الدستور، التي نصت على الآتي:
((2 - تتكون المحكمة الاتحاديَّة العليا من عددٍ من القضاة، وخبراء الفقه الإسلامي، وفقهاء القانون، يُحدد عددهم، وتنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة، بقانونٍ يُسن بأغلبيَّة ثلثي أعضاء مجلس النواب)).
إنَّ دور خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون، بمقتضى هذا النص، هو دورٌ أصيلٌ، وإنَّ الفئات الثلاث المذكورة فيه: - القضاة، خبراء الفقه الإسلامي، فقهاء القانون- كلها فئاتٌ أصيلةٌ، وتقف على قدم المساواة.
وغنيٌ عن البيان أنَّ لجنة صياغة الدستور قد أُرهِقت كثيراً في وقتها -2005- من أجل وضع النصوص المتعلقة بالمحكمة الاتحاديَّة العليا في الدستور (المواد 92 - 94)، وأنَّ النقاش الدائر حالياً كان قائماً آنذاك، إلى أنْ تم الاتفاق نهائياً على أنَّ المحكمة الاتحاديَّة تتألف من عددٍ من القضاة وخبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون.
وبإزاء هذا الاتفاق اضطرَّ المفاوض الشيعي إلى تقديم بعض التنازلات للطرف الآخر. فلقد كان المبدأ في كتابة الدستور هو التوافق وعدم كتابة شيء قسراً أو رغماً على الأطراف الأخرى. وبإزاء ذلك اضطرت بعض الأطراف إلى التنازل هنا وهناك من أجل تمرير بعض النصوص. ولعلَّ هذا السبب هو الذي أفضى إلى وجود بعض النصوص التي ينبغي ألا تكون موجودةً من وجهة نظر المتخصِّصين.
ولم يقتصر الأمر في وقتها على اتفاق لجنة كتابة الدستور على كيفيَّة تأليف المحكمة، بل تم الدخول في بعض التفصيلات الدقيقة، مثل عدد الأعضاء وبعض الإجراءات الموضوعيَّة الأخرى، ولكن بسبب ضيق الوقت للانتهاء من كتابة الدستور، الذي حُدِّد بمدةٍ يسيرةٍ لا تتجاوز ستة أشهر، ولوجود خلافاتٍ حادةٍ بصدد بعض النصوص الأخرى، تم الاتفاق على هذا القدر - الموجود في الدستور حالياً- ، وإرجاء الأمور الأخرى المتعلقة بعدد أعضاء المحكمة وآليَّة سير العمل فيها إلى القانون.
مناقشة هذه الحجَّة
إنَّ هذه الحجَّة داحضةٌ، ولا أساس لها، لا من الدستور ولا من القانون. فهي تكشف عن عدم اطلاع قائليها على تجارب المحاكم الدستوريَّة في دول العالم، فضلاً عن عدم إحاطتهم بالفقه الدستوري. وإليكم أدلة ما نقول:
أولاً: لو سلّمنا جدلاً بصحة هذه الحجَّة، فهي تسقط فيما لو قام الدستور بتبنِّي غيرها. إذْ الحاكميَّة للدستور وحده في هذا الشأن. ومن هذا المنطلق من حق السلطة التأسيسيَّة للدستور أن تصف الهيئة بـ (المحكمة) وتُدخل في عضويتها قانونيِّين أو إداريين أو محامين أو وزراء سابقين أو برلمانيين سابقين، ونحو ذلك. فالدستور هو الذي يؤسِس وله الحاكميَّة في ذلك، ولا سلطان عليه. بل من حقه أنْ يُدرج نصوصاً تتفق مع تطلعات الشعب حتى وإنْ خالفت النظام البرلماني أو الرئاسي. والدليل على هذا ما حصل في النظام البرلماني بمقتضى الدستور العراقي الحالي، فهو ليس نظاماً برلمانياً خالصاً، بل نظامٌ مُعدَّلٌ -إنْ صحَّ التعبير-. والكلام في هذا الأمر من البديهيات التي لا تحتاج إلى إفاضةٍ. وسيتجلى لاحقاً في عرضنا أنَّ الدساتير تختلف في ما بينها باستعمال بعض المصطلحات، فدساتير دول المغرب العربي معروفةٌ باستعمال بعض المصطلحات غير التي تستعملها بقيَّة الدول العربيَّة في دساتيرها.. الخ. فمثلاً إنَّ السلطة التنفيذيَّة مصطلحٌ معروفٌ في الدساتير، لكنَّ الدستور اللبناني لم يستعمل هذا المصطلح المتعارف عليه، بل استعمل مصطلح (السلطة الإجرائيَّة). ومجلس النواب له تسمياتٌ متعددةٌ بحسب الدساتير (مجلس العموم، المجلس الشعبي، الجمعيَّة الوطنيَّة، المجلس الوطني)، وهكذا في تسميات المجلس الثاني (مجلس الشيوخ، مجلس اللوردات، مجلس الأعيان، مجلس الاتحاد، مجلس المقاطعات). وأكثر من ذلك كله إنَّ رئيس الوزراء هو المصطلح المتعارف عليه بين الدساتير والدول، لكن الدستور الألماني يصفه بـ (المستشار) - المادة 62 من الدستور الألماني لعام 1949-، فما علاقة المستشار برئيس الوزراء؟ إنها لغة المصطلحات أيها السادة التي تختلف من تجربةٍ لأخرى. ونحو ذلك.
ثانياً: الحقُّ إنَّ إطلاق صفة (المحكمة) على هذه الهيئة لا يتعارض مع خصوصيَّة تأليفها من الناحيَّة الدستوريَّة؛ ذلك أنَّ الغايَّة من الإطلاق بحسب الفقه الدستوري أنها تمارس وظيفةً قضائيَّة بالمحصلة، لأنَّ لها الولايَّة العامة من جهةٍ، ولأنَّ قراراتها تحوز قوة الشيء المقضي فيه وتكون حجةً على الكافة من جهةٍ أخرى.
ولذلك تُطلق الدساتير الدوليَّة صفة (المحكمة) على هذه الهيئة، وتصفها بالـ (الهيئة القضائيَّة المستقلة) رغم أنها قد لا تضمّ قاضياً واحداً في تجارب دستوريَّة مرموقةٍ، بل إنَّ الدساتير بحسب التجربة الدوليَّة تُطلق على أعضاء المحكمة الدستوريَّة كافةً صفة (القاضي) رغم أنَّ أغلبيتهم ليسوا من القضاة، كما سيتبيَّن ذلك كله عند الحديث لاحقاً عن التجارب الدوليَّة في إنشاء المحاكم الدستوريَّة.
وأكثر من ذلك إنَّ تجربة المجلس الدستوري، وهو مجلسٌ تكون المسحة السياسيَّة فيه أكثر بروزاً، هي أيضاً تُطلق صفة (المحكمة) أو (الهيئة القضائيَّة) على عمل المجلس، ويكاد الفقه الدستوري في فرنسا وفي لبنان يُجمع على أنَّ المجلس الدستوري يمارس «وظيفةً قضائيَّة».
ولا إشكال لديهم في ممارسة الوظيفة أوالعمل القضائي ـ من الناحيَّة الدستوريَّة ـ من أعضاءٍ ليسوا قضاةً؛ ولذا سنجد أنَّ المحاكم الدستوريَّة الدوليَّة تُطلق على أعضاء المحكمة صفة (القاضي) حتى وإنْ كان أغلب أعضائها من غير القضاة؛ لأنَّ المحكمة ذات طبيعةٍ دستوريَّة خاصةٍ تمارس القضاء الدستوري، وليست محكمةً عاديَّة تابعةً للقضاء العادي تمارس القضاء العادي، والفرق بين الاثنين واضحٌ لدى المتخصِّصين. وسنعرض لذلك أيضاً عند الحديث عن الفرق بين القضاء الدستوري والقضاء العادي.
ثالثاً: وكما أنَّ الدستور لا يمانع من ممارسة الوظيفة أو العمل القضائي من أعضاء ليسوا بقضاةٍ، بل ويُطلق عليهم (قضاة) وعلى الهيئة (محكمة)، فكذا القانون لا يمانع من إطلاق اسم (المحكمة) على الهيئة ،وممارسة الوظيفة القضائيَّة من أعضاءٍ ليسوا قضاةً، وعموماً سأذكر لمحةً موجزةً عن بعض المحاكم التي تنعقد بحضور الأعضاء من غير القضاة ويمارسون الوظيفة القضائيَّة رغم أنهم ليسوا بقضاةٍ، وهي: المحكمة الاداريَّة العليا ومحكمة القضاء الإداري ومحكمة قضاء الموظفين ومحكمة الكمارك والهيئة التمييزيَّة للكمارك ومحكمة الأحداث ومحكمة الأحداث المركزيَّة والمحكمة الإداريَّة المختصة بالعقود الحكوميَّة.