الأزياء النسائيَّة والانسداد التاريخي العربي

آراء 2021/04/01
...

 منى زعرور
لقد مثل الزي عبر التاريخ أحد أبرز المؤشرات التي تطلع أي باحث أو مراقب على المجتمع الذي ينتجه، فهو الذي يحدد خصوصيته واختلافه وهوية أفراده ومنظومتهم القيّمية، والعلاقات التي يعقدها هؤلاء مع مجتمعات أخرى، والسياقات الزمنية، الجغرافية، السياسية، الدينية، الثقافية، الاجتماعية والطبقية التي يحتكمون إليها. وهو يتجاوز من ثم وظيفته الأساسية في ستر الجسد أو تزيينه ليتخذ أبعاداً ودلالات رمزية تتجاوز ما يرى بالعين، ليشكل طقساً اجتماعياً إنسانياً يصبو باتجاه تنميط ذوق الفرد واختياراته. 

ولطالما كان الاهتمام بالزي والأزياء والموضة الشغل الشاغل  للنساء عبر العصور، على الرغم من كونها ليست حكراً لهن، غير أن التنوع في الأزياء النسائية والتركيز على البعد الجمالي لديهن كرّس هذا التلازم  ودفع بتطور هذا المجال. وكانت أوروبا الأرض الخصبة لهذا التطور، إذ شهد الزي النسائي تغيرات من العصر الفيكتوري إلى الآن. ففي حين كانت الملابس في العصر الفيكتوري تتسم في بداياته بالمظهر المتزمت مع الكثير من القماش الذي يغلف الجسد بفساتين واسعة وقبعات كبيرة مع شيفونات أشبه بالحجاب الذي يغطي الرأس وكورسية ضيق (مشد الخصر) في الوسط، جاءت فساتين الركبة في العصر الإدواردي لتشكل تحولاً ملحوظاً... ولتصبح لاحقاً الملابس النسائية أكثر قصراً مع الحرب العالمية الأولى بسبب الضرورات الحربية.وكان للتنافس الاقتصادي في دول أوروبا السبب في ظهور وتتطور دور الأزياء العالمية، لاسيما التنافس بين باريس عاصمة الموضة وإنكلترا وميلانو، إذ أصبح هناك عامل جديد في الاقتصاد العالمي وهو أموال المصممين، فثروات المصممين تجري مقارنتها بثروات كبار رجالات الأعمال المتحكمين في «وول ستريت» وبأموال شركات السيارات الكبرى. 
من جهة أخرى، فللأزياء دلالتها الدينية والسياسية والاجتماعية ورموزها المتضمنة. فالسروال أو البنطال على سبيل المثال، كان حكراً على الرجال حتى وقت ليس ببعيد، ويُمنع على النساء لبسه إذ كان رمزاً للذكورة والسلطة، وناضلت نساء أوروبا والفرنسيات على وجه التحديد نضالاً مستمراً لانتزاع الحق في لبسه وانتزاعهن بذلك حقوقهن السياسية معه. 
وفي مثال آخر، فإن ألوان الملابس والبراعم والزهور التي تزين ثياب جماعة الهيبيز لهي دلالة على احترام الطبيعة وتقديسها، كما يطلق على الهيبيز لقب أطفال الزهور. ومن المعلوم أيضاً، فإن حركة الهيبيز كانت قد ولدت في منتصف الستينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة الأميركية وسرعان ما انتشرت في باقي دول العالم وأتت كرد فعل لمناهضة الحرب والقيم الرأسمالية.
وفي الوقت الراهن بات الاحتجاج على الزي من منطلق جندري. إذ يبتكر بعض المصممين أزياء بتصميمات تعد غريبة، ناجمة عن رؤية رافضة للأزياء التي تحدد الجندر كهوية، وهم في هذه التصاميم الحديثة يتوجهون لجميع الأجناس بصفة واحدة. كما يعد موضوع التخلي عن حمالة الصدر مطلباً للعديد من النسويات في رفض ما يقيد جسد المرأة وتلجأ العديد منهن للاحتجاح بخلع حمالات الصدر وتعريته للمطالبة بحقوق المرأة الحديثة. 
أما الأزياء العربية في المقارنة فإنها لم تشهد التطور المماثل، فبعد أن كانت العبايات زي النساء العربيات في ما مضى باتت أزياؤهن الحالية تتبع جملة وتفصيلاً الموضة العالمية أو تستورد منتجاتها. ولما كانت الملاية الملفوفة مع البرقع والخلخال زي المرأة المصرية، والقفطان الذي يمزج بين شكل العباءة التقليدية وتصميم الفستان زي المرأة المغربية، والعباءة الفضفاضة التي تتميز بشكلها عن العباءة الخليجية زي المرأة السعودية، والعباءة المطرزة التي أصبحت رمزاً وهوية زي الفلسطينية، والعباءة العراقية التي عرفتها السيدة العراقية ما قبل الإسلام وارتدتها بلونها الأبيض الذي بُدلّ بالأسود خلال الحقبة العباسية كحداد على ما فعله المغول ببغداد أصبحت نفسها رمزاً سياسياً ودينياً شيعياً في وقتنا الراهن، كما باتت لفة الحجاب بدورها دلالة على هوية وطائفة من ترتديه. وأصبحت تجارة الملابس المحتشمة تجارة رائجة تخفي خلفها منظومة اقتصادية متشابكة بين العديد من الدول، كما لم تتوانَ هذه المنظومة عن اللحاق بركب الموضة العالمية، وبهذا يؤكد الباحث السويسري باتريك هايني في كتابه «إسلام السوق» على أنه سواء كان الحجاب مستورداً من تركيا، أم مستوحى من الأوشحة التقليدية الباكستانية أو الإيرانية، فإن ألوان الموسم التي يُصدرها مصممو الأزياء في باريس أو تورينو هي المعتمدة وتصميمات الحجاب العصرية تحاكي نماذج القبعات الفرنسية. وهكذا أتى التحول في الأزياء النسائية العربية مباشر من العباءة الى الزي الحديث. هذا الحديث  الذي لم يتطور على مراحل والذي لم يمتلك خصوصيته وإنما كان تابعاً ومستورداً للزي العالمي.المرأة العربية الآن، ترتدي سروال الجينز الأميركي وتتعطر بعطور فرنسية وتتأنق بسترات إيطالية التصميم وتلف لفة حجاب تركية او ايرانية... في حال كانت محجبة. وتبقى قضاياها في الموضة تكمن في خلع أو لبس الحجاب من عصر النهضة حتى الاسلام السياسي وإلى الآن لم تطور حتى لفة حجاب عصرية فريدة إذ ربما حتى الـ «توربون» مستمدٌّ من لفة طائفة السيخ الهندية.
وحتى تصاميم الأزياء التي يصممها مصممون عربا عالميين أمثال إيلي صعب وزهير مراد تحاكي التصاميم العالمية والذوق العالمي من دون أن تمتلك فرادة شرقية أو عربية دالة تُسهم في كسر الهوة بين أزياء الماضي والتراث وأزياء الحاضر للمرأة العربية. 
وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على الانسداد في تطور الموضة، انسداد متصل بما أطلق عليه المفكر العربي هاشم صالح «الانسداد التاريخي». فالقديم ما زال في التراث متمجداً عند حقبة بعينها من دون تجديد على المستويات كافة: سياسية، اقتصادية، دينية، اجتماعية وحتى أزياء وموضة. واللحاق والتباهي بالموضة في عواصم عربية عديدة، حيث دور الأزياء العالمية لها متاجرها المهمة، يشبه إلى حد كبير الاقتصاديات الناشئة في هذه الدول  العربية إذ المستثمر والعامل والمصنع أجنبي والمستهلك عربي يتفاخر باستهلاكه منتجات وتصاميم لا تمت بصلة لتاريخه وهويته الثقافية.