المدنُ الضّالة (الدستوبيا)

آراء 2021/05/19
...

 علي المرهج
تحدث إفلاطون عن «الجمهورية المثلى» وتبعه الفارابي للحديث عن «المدينة الفاضلة»، ولم يكن قد تم تداول مفهوم «اليوتوبيا» كمرادف لهذين المفهومين، إلا في القرن السادس عشر، حينما كتب (توماس مور 1478 ـ  1535) كتابه الأشهر «اليوتوبيا» ليتحدث فيه عن مدينة أو جمهورية مثلى، أو الأرض السعيدة في جزيرة جديدة أسماها «يوتوبيا».
 
كثيراً ما كُتب عما يُمكن تسميته «المدن الفاضلة» ولكن لم يُكتب عن»المدن الفاسدة»، وقد ذكر الفارابي في كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة» عما أسماه «مضادات المدينة الفاضلة»، ألا وهي»المدينة الجاهلة» والمدينة الفاسقة» و»المدينة المتبدلة» و «المدينة الضالة»، ومجمل هذه المدن المعارضة للمدينة الفاضلة فهي عبارة عن «اجتماعات بشرية ناقصة» غايتها ارتكاب الشر، والانغماس في الشهوات وممارسة اللذات والانشغال بجمع الثروة، وبعدهم عن الفلسفة أو السعي للبحث عن الحقيقة.
يعود أصل مصطلح “ديستوبيا” الذي استخدمه الفيلسوف (جيرمي بنثام 1748 ـ  1832)، لكنه يرى أن الفيلسوف جون ستيوارت مل هو الذي أوضح المصطلح في عام 1818، وإن كان بلفظ آخر (كاكو توبيا)، أي “المكان المُتخيل لأفسد وأسوأ مجتمع أو حكومة”.
حينما تغيب الأنسنة تحضر “الديستوبيا” بكل عنتها وانحطاط مفكريها ومنتجيها وساستها.
نحن اليوم نعيش في “مدن ديستوبية”، وكأنها أمكنة خبيثة (شمولية) (أحادية)، مدن ينشغل ساساتها وقادتها بالبحث عن كل ما يجعل البشر أكثر خضوعاً لهم، مدن ملوثة، وخراب يحيق بالبشرية من كل حدب وصوب.
لقد توصل (توماس هوبز) لهذه الحقيقة في تأكيده على أن الشر طبع في الإنسان و “أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان” وكل مظاهر الأخوة لا تتجلى في المحبة بقدر ما تتجلى في الشر، وكأننا نعيش في مجتمع (أخوة يوسف) الذي لم يأكله الذئب الحيواني، بل أكله الأخ الذئب.
تُنتج الفلسفة بطبيعة تشكيل التفكير فيها وتصميمه رؤية تسعى للتمثل بـ “اليوتوبيا” وعوالم المدن الفاضلة، بل ويطمح الفلاسفة لتحقيقها، بينما لا تُنتج العقائد والأيديولوجيات سوى مدن تحف بها الكراهية للآخر المختلف.
ظهرت مدينة الشر “الديستوبيا” وتجلت معانيها مع أول قنبلة نووية أميركية هدمت مدينة (هيروشيما)، فبعد أن كانت “الديستوبيا” ضربا من الخيال، صارت واقعاً متحققاً، حينما أفنت قنبلة أميركا النووية مدينة يابانية بأكملها، فلم تعد من “أفلام الخيال العلمي” كما صورتها السينما، بل صارت لنا مصداقا لها وتحقق في العالم الواقعي.
النزوع للجمال والسعادة والحُلم بعالم أفضل هو مقصد “اليوتوبيا”، وفي المقابل تكون “الديستوبيا” هي “المُعاناة” و الشعور بـ “القهر” و “الحرمان”.
حينما نقول بتبادل الأدوار بين “اليوتوبيا” و”الديستوبيا” فذلك ليس على سبيل الفرض، بل قد يكون في حُلم الثوار والناهضين نزوع للـ “اليوتوبيا” أو حلم تحقيق مجتمع مستقبلي أفضل، ولكن قد تكون في نهايات الثورات غير المحسوبة عواقبها ما يجعل “اليوتوبيا” تبدو وكأنها “ديستوبيا” بعد أن يضيع الحُلم ويتلاشى أمل الثوار في التغيير.
هذه التحولات بين عوالم الأمل وعوالم اليأس، أو بين “اليوتوبيا” و “الديستوبيا” اضطرت مجموعة كبيرة من الأدباء للكتابة في الشر وحوله بوصفه من عوالم “الديستوبيا” بعد تفوق معسكر الساسة الذين يُجيدون خلق الفرص للعيش في عالمين “عالم الحُلم” وهو ما نرتجيه في مجتمعاتنا الشرقية، ولا تحقق له، وعالم نعيشه، أجاد السياسيون نقلنا من “عالم الحُلم” لنعيش في “عالم البؤس واليأس” وصوروا اليأس والبؤس مصيراً لنا، وكأنه بديل “اليوتوبيا” لتكون مرثية الحُزن موسيقى ومقامات وكلمات نعتاش عليها لا بوصفها من مصادر “اليوتوبيا”، بل هي أصل
«الدستوبيا»!.