نصير فليح
كلما حصل نوع من الاستقرار النسبي في البلاد من جهة الوضع الأمني والاقليمي العسكري، ظهرت بوادر جديدة لا تلبث ان تشير الى احتمالات تطورات مجهولة وخطيرة. فمن يلاحظ الشهور الأخيرة بنظرة سريعة، يجد ان الوضع الداخلي قد راوح في مكانه تقريبا، بينما تسارعت تطورات المشهد الاقليمي التي تتأثر بها بلادنا حتما. ولعل أهمها الاعلان عن الانسحاب الاميركي من سوريا، وزيارة ترامب الى قاعدة اميركا العسكرية في بلادنا وما أثارته من جدل وتأويلات، بينما تلوّح تركيا بتدخل عسكري في سوريا ضد الاكراد او بعض تنظيماتهم المسلحة، والذي تتحفظ عليه اميركا. أما آخر المستجدات المتسارعة، فهي تصريحات ترامب حول بقاء القاعدة العسكرية في العراق لمراقبة
ايران.
هذه الاحداث وما ترتّب ويترتّب عليها أشبه بكرة ثلج متدحرجة تتخذ اتجاهات مختلفة تنذر بانعطافات جذرية. وفي ظل وضع كهذا، فإن الاستقرار المطلوب للتركيز على حاجات الانسان العراقي المعيشية والخدمية التي طالما عانى منها، تصبح مرة أخرى في نقطة تقاطع عواصف مختلفة باتجاهات متعددة، تنذر ببروز الملف الامني والسياسي الخارجي والاقليمي العسكري الى مركز الواجهة.
يبدو ان الانسحاب الاميركي من سوريا، وهو انسحاب بات يتعثر ويتباطأ، فضلا عن اعلان اميركا عن نواياها بابقاء قواعد عسكرية في سوريا والعراق، يشير الى ان امرا خطيرا بات يلوح في الافق اكثر من اي وقت مضى، وان الانسحاب لم يكن لاجل تمهيد الاجواء لحلول سياسية سلمية. وهو ما تشير اليه ايضا الدعوات الى اقامة مؤتمر عالمي مناهض لايران في العاصمة البولونية وارشو. فهناك مؤشرات على وجود عمل لخلق وضع عالمي جديد يتم فيه التجاهل التام لقواعد القانون الدولي (الذي هو مهمش اصلا) بحيث يمكن اتخاذ اجراءات عسكرية سواء في فنزويلا او ضد ايران او مناطق اخرى من العالم، بعيدا عن التوافق الذي يتطلب اقرارا من مجلس الامن كحد أدنى. ولكن حتى توجه كهذا سيكون على الارجح عرضة للانشقاق داخل الولايات المتحدة نفسها، بين البيت الابيض من جهة والكونغرس من جهة اخرى.
وبالنسبة لنا ولشعبنا، فإن كل هذا يعني ان المنطقة مقبلة على عواصف عسكرية جديدة، ربما أشد من سابقاتها، ويجعل من وسائل النأي بالنفس اشد واصعب. فالاستقرار النسبي، حتى لو كان جزئيا، سيتيح على الاقل الضغط باتجاه ايجاد حلول عاجلة للمشاكل المزمنة، مثل الفساد وهدر الاموال وتدهور الخدمات. اما اذا جاءت عواصف الحروب العنيفة الكبيرة مجددا، فإن كل ذلك سيتراجع حتى لو كانت هناك نوايا صادقة لأجله. ثم هناك سؤال آخر مهم يتوجب التوقف عنده، وهو اذا اراد العراق النأي بالنفس، ولا سيما بشأن الصراع بين اميركا وايران، هل سيسمح له اصلا بذلك؟، لعل في الاعلان الاخير لترامب عن النية في البقاء في العراق، دون تفاهم او تنسيق مع الحكومة والسلطات التشريعية والتنفيذية العراقية، خطوة تؤكد هذه الشكوك، بانتظار ما سيتبعها من
خطوات.