محنة العلوم الإنسانيَّة

منصة 2021/05/25
...

 د.عبد الخالق حسن
 
في تصنيف العلوم ومنهجياتها، يجري التفريق بين اتجاهين، أحدهما مختص بالعلوم الصرفة كعلوم الرياضيات والكيمياء والأحياء وغيرها، أما الاتجاه الآخر فهو الذي يشتغل في حقل العلوم الإنسانية كاللغة والاجتماع والفلسفة وعلم النفس.
في كل دول العالم لا يتم إجراء تمايز بين هذه العلوم وتقديم أحدها على الآخر، بل إن النظرة إلى أهميتها هي نظرة واحدة تقدر قيمتها وأثرها في الحياة الإنسانية. وهذا طبعا يكسر الحدود والمحايثة في التصنيفات، لهذا صرنا اليوم نجد مختصين في اللغة يبحثون في هندستها وكيميائها ورياضياتها، مثلما نجد استعارات تستعيرها العلوم الصرفة من حقول اللغة مثلا في أثناء التعبير عن الحالات العلمية الصرفة بمنطق لغوي خالص.
قبل أيام كنت أتحدث وبعض الأصدقاء عن محنة الإنسان العراقي الذي لبس بدلة الحرب وحمل سلاحه منذ سنوات من دون نهاية منظورة لحروبه المتناسلة. لكن مع هذا نجد أن الانشغال من قبل الدولة بمعالجة تراكمات هذه الحروب غير متاح ولا يأخذ حيزًا من تفكير القائمين على إدارة البلد. 
وإن كان هناك جهد، فهو يعود لمنظمات مجتمع مدني أو من خلال أعمال تطوعية يقوم بها أفراد مهتمون.
في أوربا وأميركا وكل الأماكن التي كانت مسرحاً للحربين العالميتين، يمكن أن نلحظ انهماكاً من حكومات تلك البلدان وحتى مثقفيها بتصعيد دور العلوم الإنسانية، التي ينصب اهتمامها على البحث في مشكلات البشر، أفراداً أو مجتمعات، لهذا كانت مرحلة ما بعد الحربين هي مرحلة ازدهار النظريات الخاصة بكل العلوم الإنسانية من أجل معالجة جروح البشر النفسية التي تسببت بها مآسي الحربين. 
يمكن هنا استذكار وجودية سارتر، أو بزوغ نظرية التلقي في النقد الأدبي وهما نظريتان تركزان على الفرد وتعلي شأنه، وكأنهما تحاولان رد الاعتبار للإنسان بسبب الانكسار النفسي الذي أصاب الأفراد في مجتمعاتهم. وهما لم تكونا سوى ردة فعل على التسلط الذي سلب حرية الفرد ودفعه إلى منزلقات
خطيرة.
أما في ما يخص طبيعة النظريات النفسية والتعاطي معها، فقد كانت مرحلة ما بعد كل حرب من الحربين تمثل ذروة نشاط هذه النظريات، وكان الناس مؤمنين بدورها في معالجة مشكلاتهم النفسية من دون حرج، لهذا تجد أن كل إنسان يمتلك ملفاً لدى معالج نفسي يسجل فيه كل همومه وأعراض أمراضه 
النفسية.
هنا تحضر قضية الثقافة المجتمعية واختلافها وتباينها من مجتمع لآخر، ومن ثقافة لأخرى.
في مجتمعاتنا اليوم، وبالتحديد في المجتمع العراقي، يجد الناس نفسهم محرجين من التردد على معالج نفسي لأنهم يرون الأمر معيباً يدخل في دائرة الوصمة والإساءة لذواتهم، مع أن مجتمعاً مثل مجتمعنا، مع كل ما مرَّ به من أزمات يحتاج كل شخص فيه مراجعة معالج نفسي ليضبط له إيقاع شعوره الداخلي، الذي ارتبك كثيراً بسبب الحروب وتبعاتها.
كذلك فإن ثقافة مجتمعنا مثلا ترفع من شأن الطبيب والمهندس والصيدلي على حساب المختص بالجانب اللغوي أو النفسي أو الفلسفي، مع أن كل حقل من هذه الحقول له أهميته التي لا يجاريها حقل آخر.
وهذا الأمر لا يقتصر على سلوك الأفراد ونظرتهم، بل نجده سلوكاً عاماً تخضع له الدولة التي تميز بين العلوم وتمنح الامتيازات لعلم على آخر. 
يحضرني هنا مثال، وهو أن وزارة التعليم العالي أوقفت في بعض السنوات ابتعاث طلبة العلوم الإنسانية إلى الجامعات العالمية الرصينة، والمحظوظ منهم، يجري ابتعاثه إلى جامعات عربية ربما تتفوق عليها الجامعات العراقية في نوعية أساتذتها أو مناهجها.وطبعاً هذا سلوك خاطئ وفلسفة غير قائمة على معرفة حقيقية بأهمية العلوم الإنسانية وإتاحة الظروف للطلبة هنا من أجل الاطلاع على أحدث نظرياتها من خلال ابتعاثهم إلى الجامعات العالمية 
العريقة.
لهذا، يجب على الدولة حقاً أن تعيد الاعتبار لحقل العلوم الإنسانية، لأنها تلتصق بالجانب العاطفي والنفسي والذوقي للإنسان، وهي الأقدر على إنقاذ البشر من الصدمات التي تتسبب بها الحروب 
والأزمات.