ماذا لو جفت الأنهار؟

آراء 2021/06/06
...

  رزاق عداي
بلاد النهرين، او « ميسوبوتاميا  - mesopotamia- » المشتقة من اللغة الاغريقية القديمة، هي تسمية البلاد التي تقارب مساحة ارض العراق اليوم، ويستخدم للاشارة الى الاراضي الواقعة شرق الفرات، وقد توسع لاحقا استخدام المصطلح ليشمل بشكل عام جميع المساحات بين نهري دجلة والفرات، ومن ثم يمتد حتى اعماق الخليج العربي، فاسم العراق القديم استمد دلالته الرمزية مقترنا بنهرين اسسا حضوره القديم والازلي، والتسمية الدال « النهرين» اطلقه الآخر على متعين، نهرين، هما دجلة والفرات، فعندما يفك الدال عن المدلول يحصل هناك خلل في المعادلة. 
 
النهر هو الذي يحفز ولادة المدن، ان حضورنا امام الانهار عندما نسكن المدن يمحي عنا هذه المتابعة لهذه الاولويات حيث نكون الآن، وحيثما كنا، سوى ان النهر امامنا كمسار يشبه ديمومة الزمان المستمرة، ولكن هذه الفكرة المطلقة والمجردة سوف تعبث بها فعالية مقصودة،وبدوافع شتى، اذ تصنعها الفعالية الاخيرة، عوامل ملحة تنبع من صميم الحياة في صراعاتها واشتباكاتها، ومن دوافع المصلحة،تشتمل نوازع الهيمنة والسيطرة، حتى وان جرى هذا على حساب خريطة الطبيعة ومجراها، كما يتعرض نهر دجلة واذرعه من تعسف غاشم هذه الايام.
في مدينة بغداد مثلا، لم يكن النهر الا المركز، حيث تذكر كتب التاريخ الماضي ان الخليفة العباسي «ابو جعفر المنصور»، قد درس موقعها بعناية فائقة انطلاقا من هذا المركز، لذا صار النهر يمثل البؤرة لبقية المدارات، ويمكننا ان نتصور هذه المدينة انذاك شبه دائرية ومنشطرة الى صوبين الكرخ والرصافة، ودجلة هو الحد الطبيعي الذي تنقسم به المدينة الباهرة، حقا لقد كان انشغالا عارما في حياة الناس، لقد تشكلت الحياة في بغداد منذ البدء مرتبطة بهذا النهر - المركز، وقد يكون ىالانشغال الاول حياتيا صرفا، لكن البعد الثاني يعرَف بانه انهماك اسطوري، له آلهته وحكاياه، فالنهر في بغداد علاقة وجود لا يمكن التمادي عليها، وعلاقة عيش تربط بين المجموعات البشرية، فقبل ان تنشأ الجسور معابر اساسية بين الناس القاطنين في كلا الصوبين، كان العبور الى الصوب فعلا لا بد من التفكير به مليا، فكانت الجسور لاحقا فوحدة المدينة واندمج صوباها.
لقد تحورت الانهار وتفاعلت مع حاجات الحياة واندفاعاتها المتجددة، لقد انها جدبت وشحبت، اذ اصبحت مشروعا خطرا للسياسية والمصلحة وربما سلاحا للحروب القادمة.
في السنوات الاخيرة بدأت الصحف والدوريات من كل الاتجاهات تنشر، ان العراق يواجه خطر جفاف نهريه التاريخيين دجلة والفرات، في ظل قيام جارتيه تركيا وايران ببناء السدود التي من شاْنها تقليص حجم الامدادات بشكل كبير، بينما بداْت الازمة في الظهور بالفعل قبل بضع سنوات بوقوع عمليات جفاف غير مسبوقة لنهر دجلة وحالات تسمم للاْسماك وكذلك المواطنون في بعض مناطق البلاد،
عندما يحل الجفاف بالانهار، لا تكون هذه الانهار قد غادرت مثولها الاسطوري فحسب، انما تكون قد فقدت قدرتها على مد الحياة بالديمومة.