ولكنَّها حياة!

ثقافة 2019/02/16
...

ياسين طه حافظ
 
 
يوما قال مناضل جزائري وهو يواجه الاعدام لحظة صعوده المنصة: حين "يموت الانسان يموت وحيدا".
وقد اختلفت التفاسير في جملته بالغة الحزن هذه. فمن قال بما يقوله السياسيون والمناضلون، انه قصد انه يموت وحده لكن الجماهير باقية. ومن فسّرها: على نقيض ذلك فهو أحسَّ بوحدته وقد واجهت الذات مصيرها ولا احد يفعل شيئاً، ولم يكن مثلما كان يظن، فرأى نفسه تواجه الموت وتخسر الحياة بكلّ ما فيها، وان جملته تقطر أسفاً وندماً لكن بعد فوات الأوان. هذه مسألة كلٌّ يراها ببصر وبصيرة يختلفان عن بصر وبصيرة الآخر، وللناس افكارهم وما يرون. لكن ماذا نقول بمن يعيش وحيداً؟ فلا طباعه مثل من حوله ولا ثقافته ولا حساسيته ورهافتها ولا آماله ولا الأمنيات؟، هذا الاغتراب الذي شكل يوماً مدرسة فكرية وهذا الحال الذي يجد هذا أو ذاك نفسه فيه، ويزداد اتساعا في عصرنا الصاخب المتقاتل، المزدحم بما يؤسف ويحيّر وينغّص نهارات الناس بل جملة حياتهم، ما اختفى يوما في جميع العصور. وفي كتابات ومدوّنات الناس في الاعصر المختلفة نجد ما يعبر عن ذلك وما يشي به ونجد من يعلنه للناس بعد ان تضيق به نفسه والعالم.
المهم من هذا الكلام أن أحزان خفية كامنة وان عدم رضا ومعاناة وان مواجهات للذات مع الظرف ومفرداته، لا ينجو أحد منها ثريا كان او معدما وان اختلفت النسب والأسباب.
وهذه مسألة تناولها مفكرون واجتماعيون وعلماء نفس قبل ان يتناولها الادب. الادب ظل الى مرحلة قريبة قريباً من الحضور القوي والبطولات والمغامرات رابحة او خاسرة. وظل مع الفعل السياسي ومتاعب العوز وقصص الحب حتى كثرت قصص الجريمة وخفاياها.
الادب الفرنسي، كما ارى، قبل غيره اهتم باحتياجات الداخل الانساني وصبوات او انكسارات الذات، كما صور المتع الصغيرة وادق الملامسات التي تمس الروح وتبعث مباهج او ألماً ناعماً. حين أقول الاحاسيس أعني من اللمسة الى الشذى الى الأناقة والاثارات الروحية والجسدية. أظننا في "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست أمام أنموذج غاية في الاتقان والمتابعة لأمور مثل هذه، فضلا عن روايات كثيرة واشعار. لكننا في الوطن العربي، حيث الانسان مكمل الا كونه اجيراً او واحداً من ناس الشعب، وان الاهتمامات الرسمية ان وجدت ففي الصحة العامة وتنظيم المرور والسكن ومجموعة الانظمة والقوانين العامة السائدة. في بيئة مثل هذه لا التفات الى عذابات الذات ومواجهاتها الا اذا استحالت مرضاً نفسياً او نظر لها كذلك. ومعنى صفة "سلبي" الشائعة غير متفاعل، ولا سبب يكمن وراء التسمية هذه الا كونه ناشزاً او لا يسهم في عمل او لا ينسجم مع من تآلفوا والظروف السائدة بما فيها من خير قليل وعيوب ونواقص تنغص عيش الناس ونفوسهم وتسمم ارواحهم بالاسى او الانكسار الخفي وراء مظاهر جسدية سليمة.
الادب العربي عموماً، ان اهتم بامور كهذه فاهتمام قليل لا يتناسب وتعقيدات العصر وما تسبب من ردود افعال تترك صدوعاً في سلام الناس وسكينتهم . حصل بعض من هذا حين تأثر بعض كتابنا وشعرائنا بالوجودية والعدمية و حين قرؤوا ادغار الن بو وكافكا ودوستوفيسكي وعدد اولاء من كتاب القصة او من الشعراء قليل، حتى تزايد العدد وبدأت نسبة هذه الكتابات 
تتضح.
قلت رأينا بعضا من هذا في من تأثر بالوجودية والعدمية التي سادت اوربا بعد الحرب الثانية. وكان نشر الوجودية في بلاد العرب بستراتيج مدروس جيداً وبقصدية واضحة فكتبها سادت زمن النهوض القومي واتساع حركة اليسار في العراق ومصر وسورية والسودان .. لسنا بصدد مناقشة هذه المسألة فهي تحتاج وقتاً واسانيد ولسنا في موضع الكلام عنها. يمكن ان نشير الى ان من بدت تأثيراتها في كتاباتهم من العراقيين هم الذين كانوا خارج الاحزاب السياسية مثل عبد الملك نوري ونزار عباس وبعض منها في كتابات، حسين مردان، وفؤاد التكرلي ليس بعيداً تماماً عن ذلك.
وكانت مظاهر هذه المشاعر الاكتئابية والعبثية واضحة في تعابيرهم وطرائقهم في الحديث الثقافي والسلوك، كما اتضحت على وجوههم علائم منها. وهنا اذكر قولاً لسقراط مبكراً: 
- "عندما يكون لنا اصدقاء سعداء او تعساء، هل تكون وجوه من تعينهم سعادتهم او تعاستهم نفسها وجوه من لا يكترثون لذلك أبداً؟"
- "لا قال براريوس. في السعادة يشع الفرح على الوجه وفي التعاسة تعتم النظرات ..."
هكذا سادت المرارة وعدم الرضا او اللامبالاة وتسخيف السلوك السياسي والافكار..
ما يهمّنا اليوم وقد تجاوزنا الكثير مما كان: الى كم يظل الفرد مهملاً والذات المنغّصة بعذاب خفي وغربة واستياء وعزلة في مجتمع صناعي تجاري سياسي صاخب؟، وبعد اتساع الثقافة وتنوعها والتوغل في الاشكالات الحضارية المتشابكة ألم يحن الوقت الذي نجد فيه اهتماما اوسع بمتاعب الانسان فرداً ولذات الممتحنة المتورطة بوجود صعب او بعذاب داخلي خاص؟، أظن أدبنا العراقي تقدم كثيراً في المضامين التقليدية وما يشغلهم من هموم عامة وحياة، لتبدأ عنايته بالانسان وحيداً!، وهذا ليس مناقضاً للاهتمام العام، فالفرد واحد من مجموع والمجموع يتكون من افراد. والدعوة سليمة وليس فيها ما يستنكر. صحيح نحن نقرأ ما يتزايد منه في الاداب الاجنبية، لكننا نأمل بأن تكتمل إنسانية الادب عندنا.. اما شيوع الادب المطلوب: المعني بذات الانسان فرداً، في العالم وفي السنوات الاخيرة، فسببه كما أرى استيفاء الهموم العامة ببرامج تنمية كالسكن والمؤسسات الصحية وتنظيم العمل واجوره والضمان الاجتماعي . وخطوة لاحقة صار الاهتمام بالاحتياجات الخاصة، بحدود ضيقة، ندعو لاستكمال الاهتمام بالمجتمع كوحدات بشرية لا قطاعات عامة. وهكذا يصبح الاهتمام بالذات قد تحول من مفهوم الوجودية والعدمية الى مفهوم اجتماعي متفوق!.