تسودُ بين الأوساط الثقافيَّة والأكاديميَّة فكرةٌ مفادها بأنَّ العرب كانوا أمةً تقول الشعر وتبرع به ولا تحسن غيره، أو ربما لا يصل كلامها المنثور إلى مستوى أقوالها الشعريَّة. في هذه الفكرة إطلاقيَّة وانحياز للشعر ترسخت في الأذهان من خلال ما وصل إلينا من أقوال اللغويين القدامى وغيرهم في أنه كان سجل أخبارهم، أو أنه علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، وسواها من المنقولات التي نقلتها لنا المصادر التاريخيَّة، التي كانت تبحث في كلام العرب في جانبيه النثري أو الشعري، فضلاً عن المصادر التي وصلتنا بعد عصر التدوين والتي كانت تخوض في نقد الشعر.
إنَّ ترسيخ مثل هذه الفكرة هو بمثابة الجناية التي تسلمها السابقون واللاحقون، حينما اعتمدوا هذه الفكرة لتكون معياراً ثابتاً يقيسون عليه قيمة الشعر عند العرب.
الثابت في تاريخ الشعر ونقده، أنَّ أقدم النصوص الشعرية العربية تعود إلى 150 سنة قبل الهجرة النبويَّة المباركة. بمعنى أنَّ عمر الشعر حين وصل إلى البعثة كان قرناً ونصف القرن فقط، وهذا طبعا لا يصح معه أن نجعل فكرة تسيد الشعر على الذوق العربي قارَّةً وثابتةً، لأننا مثلما نعرف أنَّ الكثير من الشعر ضاع مع سهولة حفظه، بل إن الكثير من الشعر أيضاً قد جرى نَحْلُهُ وصناعتُه وإضافتُه إلى متون الدواوين الشعرية على يد الرواة، الذين كان بعضهم غير مؤتمنٍ على منهجية الرواية التي اعتمدها اللاحقون لهم، ليبنوا عليها تصوراتهم حول اللغة ويقيسوا عليها نحوهم وصرفهم من خلال مطابقتها مع الشعر، الذي نقله هؤلاء الرواة، وهذا الأمر المتعلق بالشك وقبول الشعر كما هو ابتدأ منذ عهد ابن سلَّام الجمحي، وصولاً إلى طه حسين الذي تعرض إلى الكثير من الطعن بسبب كلامه عن صحة ما ورد من شعر منسوب إلى مرحلة ما قبل الإسلام.
هذا ونحن نتكلم عن الشعر الذي يسهل حفظه وتستلذ له الأسماع وتطرب له، فكيف الحال مع المتون النثرية التي لم يكن الوضع الثقافي يسمح بحفظها بسبب عدم انشغال العرب بتدوين كلامهم، لأنَّ التدوين أيضاً يحتاج إلى استقرار وتمدن ورخاء حضاري. لكن هذا لا يعفي العرب من تركهم للتدوين، لأن الأقوام الأجنبية المحيطة بالعرب كانت تحفظ علومها وتراثها من خلال تدوينه، في حين أهمل العرب هذا الجانب الثقافي المهم ولم يحتفلوا به إلَّا بعد أن ارتبط بقضية الدين ونزول القرآن، وما رافقه من عملية تثبيت لنصوصه عبر ما يمكن أن نسميه (مؤسسة كُتَّاب الوحي).
إنَّه ليس من المنطقي والمعقول الركون إلى مقولة إنَّ الشعر كان هو المتسيِّد للساحة الثقافية -إن جاز التعبير- قبل الإسلام. فاشتراطات الشعر التي ترتكز إلى الموهبة والإبداع واحتفال قبائل العرب بظهور الشاعر بينها، يجعل عدد الشعراء يساوي نسبة قليلة من مجموع السكان، وهذا سببٌ كافٍ يجعل من فكرة أنَّ العرب أمةُ شعرٍ فكرةً منحازة،ً لاتستند إلى دليلٍ موثوق سوى غياب نصوص النثر، وغياب الشيء طبعاً لا يعني انعدام وجوده، بل الأمر كما قلنا متعلق بقضية التدوين فقط.
إن التراث النثري الذي تركه لنا العرب قبل الإسلام وبعده يجعلنا نقف موقف الرافض لفكرة غَلبة الشعر على النثر، لأن قيمة هذا التراث النثري تكشف لنا عن قدرة هائلة في تنظيم القول النثري وبث الأفكار الفريدة فيه، وهذا طبعا يستند إلى ما تركه من سبقهم في هذا المجال،بمعنى أنَّهم -أي الكُتّاب- لم يخرجوا فجأةً أو ينبتوا في أرضهم مثل النبات الذي حملت بذوره الريح من مكان بعيد، بل إنَّهم كانوا امتداداً لتراث نثري تشرَّبته عقولهم وأرواحهم ليهطل من غيوم أصابعهم على شكل مؤلفات، ما زلنا نقف اليوم أمامها مبهورين.
إننا هنا لانقصد التقليل من قيمة الشعر أو الطعن في مرتبته، بقدر ما نحاول إنصاف تراثنا النثري الذي هو بمثابة الجناح الآخر لثقافتنا وتاريخنا الأدبي الذي طار عبر الأزمان وحطَّ بيننا بجناحي الشعر والنثر.