القصيدةُ المُنْصِفَةُ

منصة 2021/06/30
...

 د. عبد الخالق حسن
 
البحث في متن متشعب وعريق مثل متن الشعر العربي، يحتاج إلى الوقوف على بنياته الداخلية والخارجية والثقافية والاجتماعية وغيرها، حتى نستطيع فهمه بشكل موضوعي من دون الانتقاص منه، أو النفخ فيه ليكبر خلافاً لواقعه.
لا بدَّ من التثبيت أولاً أنَّ نظام القصيدة العربية يقوم على فكرة الغرض الذي رافقه طوال مسيرته. 
بمعنى أن الشعر عند العرب لم يكن سوى مجموعة أغراض قولية أنبنت عليها القصيدة العربية منذ نشأتها. فالقصيدة ليست سوى مديح أو هجاء أو رثاء أو غزل وسواها من الأغراض، التي كان الشاعر يتخذها محوراً أساسياً لقصيدته، وهي هنا، أي القصيدة، قد تكون غرضاً واحداً خالصا، وربما تنوعت فيها الأغراض خضوعاً للحالة 
الشعرية.
معروف أنَّ السياق الثقافي الذي ولد فيه أغلب شعر المديح أو الهجاء هو سياق الصراع والتناحر والخلافات والمشاحنات، التي كانت بارزة في البيئة العربية التي عاشت قبائلها حروباً داميةً في ما بينها، لأسباب تتعلق بالطبيعة الاجتماعية لهذه القبائل. 
ولا شكَّ في أنَّ الشعر نما كثيراً تحت ظلال سيوف المعارك القبلية، التي يتصور الكثير أنَّ الشعر فيها كان يسير في مسار الانتصار لقوم الشاعر والحطَّ من قيمة أعدائهم فقط، من دون أن تكون هناك لحظات شعريَّة مغايرة للواقع الثقافي والاجتماعي.
ولعلَّ أبرز مثال على هذا هي {القصيدة المنصفة} التي مثَّلت محطةً ثقافيةً وإنسانية هائلة في التراث الشعري.
تقوم فكرة القصيدة المنصفة على تعداد محاسن العدو، وإظهار صفاته الجيدة برغم كونه يخوض حرباً مع الشاعر نفسه أو مع قومه. وبهذا تسجل هذه القصيدة سبقاً زمنياً يُحسَب للشاعر العربي، في كونه لا يقع أسير العداء الأعمى الذي ينقاد خلف الكراهية المستمرة، بل إنَّ القصيدة المنصفة تتحرك بشاعرها نحو مساحة الإنسانية والاحترام للخصم مع كونه عدواً.
وهي كذلك أيضاً تمثل محطة استراحة من التشنج والبغض. وربما أسهمت مثل هذه القصائد في تخفيف منسوب العداوة بين المتحاربين، وهو ما قد يوقف الحرب نفسها.
ولا بأس هنا أن ننقل مثالاً لهذه القصيدة أورده أبو تمام في حماسته، وهي لشاعر اسمه زاهر التميمي قتل خصما يقال له تيم فأنشد فيه قائلا:
لله تيم أي رمح طراد
لاقى الحِمام به، ونصل نجاد
ومحشّ حربٍ مقدم متعرض
للموت غير معرّد حيّاد
كالليث لا يثنيه عن إقدامه
خوف الردى وقعاقع الإيعاد
فالذي يقرأ هذه الأبيات، من دون أن يعرف قصتها، يظن حتماً أنّها لشاعر يمتدح شخصاً في قبيلته، لما في القصيدة من ثناء كبير، ورسم صورةٍ طيبة عن المقصود بالأبيات. 
وهناك طبعا عشرات القصائد على شاكلة هذه القصيدة الآنفة الذكر لا يتسع المقام لذكرها.
إنَّ فكرة القصيدة المنصفة تمثل تجربة شعرية تستوجب من الشاعر فيها أن يتحلى بالشجاعة وكرم النفس. لأنَّ امتداح الخصم أمرٌ ليس هيناً على المتخاصم معه. 
كذلك فإنَّ القصيدة المنصفة هي صوت متحضِّر في بيئة كانت وما زالت توصم بأنَّها بيئةٌ متخلفةٌ بعيدة عن احترام التقاليد الإنسانية.