مجابهة الفيروس التاجيّ بمساعدة الفلسفة القديمة

منصة 2021/07/01
...

  مارتن فيرجسون سميث
 
 ترجمة: جمال جمعة
 
في هذا الوقت الذي يفتك فيه وباء الفيروس التاجي بعشرات (وربما قريبا مئات) الآلاف، ويعطل اقتصاديّات الدول المزدهرة وحياة المليارات من البشر، مولدا الكثير من الخوف، قد يكون من المفيد الاستدارة إلى اليونان والعصور الرومانية القديمة ومعرفة التوجيه الأخلاقي الذي يمكن أن يحصل عليه المرء من مدرسة الفيلسوف إبيقور (341-270 قبل الميلاد).
لم تكن الطواعين والأوبئة غير مألوفة في العالم القديم. أشهرها ذلك الذي ابتليت به أثينا عام 430 قبل الميلاد، في السنة الثانية من الحرب البيلوبونيسية التي خاضتها المدينة وحلفاؤها ضد أسبارطة وحلفائها. تم توثيق هذا الطاعون بيانيًّا من قبل المؤرخ ثوسيديديس، الذي لم يشهده فحسب، بل أصيب به وتعافى.وعلى الرغم من وصفه له بالتفصيل على أمل أن يكون وصفه مفيدًا في حال عاود نفس المرض تكرار حدوثه في المستقبل، لم يتمكن الخبراء المعاصرون من التوافق على تشخيصه.
في سلوكه وأعراضه وتأثيراته، كان له بعض أوجه التشابه مع الفيروس التاجيّ. قيل إنه نشأ في بلد بعيد، في مكان ما جنوب مصر، وقد أثّر على مناطق أخرى قبل الوصول إلى أثينا، وصبّ دماره حيثما كان الناس يحتشدون مع بعضهم البعض.كانت أثينا عرضة بالتحديد لأن الحرب أكرهت العديد من سكان الريف على البحث عن مأوى في المدينة.كان المرض شديد العدوى. الأطباء، الذين لم يصادفوه من قبل، لم يعرفوا كيف يعالجونه، وتعرّضهم له يعني أنهم عانوا من أعلى معدل للوفيات. كان الأفراد الآخرون الأكثر عرضة للإصابة به بمخاطر عالية بين السكّان هم أولئك الذين يعانون من مشكلات صحية موجودة مسبقًا. أعراض المرض شملت الحمى، والسعال، والتقيؤ، والإسهال. وإذا لم تتم زيارة المرضى لخوف الآخرين من الإصابة، فإنهم يموتون بسبب الإهمال؛ وأولئك الذين كان إيثارهم يدفعهم للزيارة فقد كانوا على الأرجح يدفعون حياتهم ثمنًا لذلك. أما أولئك الذين أصيبوا بالمرض ولكنهم تعافوا فقد كانوا محصّنين ضد هجوم آخر، على الأقل ضد هجوم قد يكون قاتلاً.
وقع وباءُ أثينا قبل قرن تقريبًا من ولادة إبيقور. كتاباته الكثيرة معظمها أتلفت، ولا نعرف ما إذا كان هو نفسه الذي كتب عنها، لكن أشهر أتباعه فعل ذلك، وهو الشاعر الروماني لوكريتيوس، الذي كتب في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، مختتما الكتاب السادس والأخير من ملحمته اللامعة عن الكون، {في طبيعة الأشياء}، مع سرد يقتدي في أغلبه بما كتبه ثيوسيديدس إلى حدّ بعيد، لكنه يصوّر الأثينيين الذين يعيشون في زمن لم تكن فيه تعاليم إبيقور متاحة بعد، لأنهم، أخلاقياً وكذلك طبّياً، كانوا غير مهيئين للتعامل مع الكارثة. على الرغم من أن لوكريتيوس لا يقول ذلك صراحة، فمن المحتمل أنه رأى في الحالة الجسدية لضحايا الطاعون صورة رمزية للحالة الأخلاقية للبشريّة غير المستنيرة.
فكرة أنّ غير المستنيرين {مرضى} ويستلزمون {الطبّ} الإبيقوري موجودة في مواضع أخرى من كتابات لوكريتيوس والمصادر الإبيقورية على حد سواء. إبيقور ذاته يعلن:
باطلة هي كلمات الفيلسوف التي لا تُشفى بواسطتها معاناةٌ بشرية. فكما أن الطب لا ينفع إذا فشل في درء أمراض الجسد، كذلك الفلسفة لا فائدة منها إذا فشلت في درء أمراض العقل.
الأربعة أقوال المأثورة التي يلخص فيها إبيقور المبادئ الأساسية لنظامه الأخلاقي كانت معروفة لأتباعه باسم Tetrapharmakos (العلاج بالعَقّار الرُّباعي).
وفقًا للناطق بلسان الإبيقوريين في رسالة شيشرون {في نهايات الخير والشرّ}،  فإن أمراض العقل هي أكثر تدميرا للسعادة من أمراض الجسم. مثل هذه الأمراض تشتمل على شهوات لا محدودة وفارغة للثروة، والشهرة، والسلطة، والملذّات الحسّية. في القرن الثاني الميلادي، قام الفيلسوف الإبيقوري ديوجانس (ديوجين) من أوينواندا، وهي مدينة صغيرة في جبال جنوب آسيا الصغرى (الأناضول)، بتوضيح رسالته الإنسانيّة والكوزموبوليتية لمواطني المكان وزواره في أكبر نقش يوناني معروف من العالم القديم، مؤكداً: غالبية الناس يعانون من مرض شائع، كما في الطاعون، بأفكارهم الخاطئة عن الأشياء، وعددهم في ازدياد، لأنهم في المحاكاة المتبادلة يصابون بالمرض من بعضهم لآخر، مثلما تصاب الأغنام.
وهو يسمّي التعاليم الإبيقورية التي يطرحها {الأدوية (pharmaka) التي تجلب النجاة}.
إبيقور، الذي أسّس مدرسته في أثينا العام 307/306 قبل الميلاد، كان يُنظر إليه ويوقَّر من قبل أتباعه، سواء في عصره أو في القرون التي تلت وفاته، كمكتشف الطريق الذي يؤدي إلى تحقيق الصحة الأخلاقية والسعادة الحقّة. 
في تعليمه أنّ اللذة هي الخير الأسمى، عرّفَ المتعة في شكلها الأنقى على أنها {أبونيا} (تحرّر من الألم) في الجسد، والأهم من ذلك،{أتاراكسيا} (تحرّر من الاضطراب) في العقل. {أتاراكسيا} هي استعارة مجازية من الماء والطقس الساكنين، الفكرة والمثال في أن تجعل عقلك هادئًا مثل مياه الميناء التي لا تشوّشها التيارات، ولا المدّ والجزر، والرياح. الآلام والأمراض الجسدية لا يمكن تجنبها دائمًا. إذا كانت طفيفة، فإنها محتملة ولا يزال بإمكانها السماح بغلبة المتعة الجسدية على الألم. وينطبق الأمر نفسه في كثير من الأحيان على الأمراض المُزمنة. الألم الشديد يمنع بالطبع المتعة الجسدية، ولكنه غالبًا ما يكون قصير المدى، إذ يتم تخفيفه عن طريق الشفاء أو الموت.ثمة تعاليم مهمة للغاية تقول إن المتعة العقلية هي أكثر أهمية من المتعة الجسدية. فعندما يتألم الجسد، يظل بإمكان العقل تجربة المتعة وتخفيف الألم الحاضر من خلال استذكار الملذات الماضية وتوقّع الملذات القادمة.
إنّ مقدرة العقل على النظر إلى الوراء وإلى الأمام يستثمرها الحكماء لصالحهم، لكنها تخرّب حياة أولئك الذين يكون موقفهم من أحداث الماضي مريرًا، والذين تهيمن على موقفهم من المستقبل مخاوف لا داعي لها، خاصة بشأن الآلهة والموت، والشهوات غير الضرورية، خصوصًا تلك المتعلقة بالثروة والسلطة.
إنّ مفتاح إزالة هذه الاضطرابات وتحقيق هدوء العقل يكمنان في دراسة الكون علميًّا. بتبنّي وتكييف نظرية ديموقريطس الذرّية، أظهر إبيقور أنه في كونٍ بلا ولادة ولا فناء، يتكوّن من عدد لا نهائي من الذرّات ومدى لا نهائي من الفراغ (ويحتوي على عدد لا نهائيّ من العوالم) لا يكون فيه مكان للآلهة في الخلق أو الحاكمية على عالمنا، والذي هو على أيّ حال أبعد ما يكون عن الكمال، بحيث لا يمكن أن تصنعه العناية الإلهية لمصلحة الإنسان: شاهد، على سبيل المثال، المناخ العدائي في العديد من المناطق، والظواهر المدمرة مثل العواصف العنيفة، والزلازل، والثورانات البركانية، وبالطبع الأمراض والطواعين. ليس ثمة إمكانية لوجود مكان تخلد فيه الأرواح ويمكن أن تُعاقَب فيه بعد الموت. إن الروح والعقل البشريَّين، مثلهما مثل الجسد، مادّيان، وعندما يموت الجسد، الذي هما بالفعل جزء منه، فإنهما يفنيان أيضًا. ليس الموت ما نخاف منه: طالما أننا موجودون، فهو ليس معنا؛ وعندما يأتي،فنحن لا وجود لنا. الجحيم موجود فقط بمعنى أن الحمقى يجعلون من حياتهم جحيما على الأرض. في الوقت نفسه، فإن أولئك الذين يعيشون حياتهم بحكمة يمكنهم الاستمتاع بالسعادة مثل الآلهة.
مثل هذه السعادة يختبرها أولئك الذين يعيشون حياة بسيطة، يُشبعون تلك الرغبات التي هي طبيعية وضرورية، مثل تلك المتعلقة بالغذاء الضروريّ، والشراب، واللباس، والمأوى، واستبعاد تلك الرغبات، مثل رغبات الثروة، والمكانة، والمُتع الحّسية، والتي هي غير ضرورية، لأنه يستحيل إشباعها، وتنطوي بشكل مؤكد على الألم.
لعلّ إبيقور كان يأمل، في مواجهة جائحة الفيروس التاجي، أن تساعد تعاليمه المرضى على تحمل مرضهم برباطة جأش، والبقية منا على إبقاء قلقنا، ومخاوفنا، وإحباطاتنا، وخيبة أملنا في منظورها الصحيح، لكي نكون هادئين وإيجابيين قدر الإمكان، مبتهجين بصحتنا الجيّدة إذا كنا محظوظين بما يكفي للحفاظ عليها، ونحصي نِعَمنا على الإجمال، بما فيها نعمة الحب والصداقة، اللتان كان امتلاكهما أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة له ولمدرسته. من المحتمل أنه كان يأمل أيضًا أن تساعدنا تعاليمه على مراجعة الطريقة التي يعيش بها الكثير منا حياته وإعادة تقييم أولوياتنا وقيمنا.
من المؤكد أن الجائحة ستحدث قدرًا هائلاً من الضرر الاقتصادي، ولكن بالنسبة لإبيقور، فإن الرخاء المادي والثروة أقلّ أهمية بكثير من الرفاه الأخلاقي. في الواقع، إن السعي وراء الثروة، والمكانة، والسلطة لا تتوافق مع راحة البال التي تكمن فيها المتعة الحقيقية والسعادة. وكما كتب إلى صديق بخصوص تلميذ شاب:
إذا كنت ترغب في جعل بيثوكليس غنيًا، فلا تزد من موارده المالية، بل قلّل من رغباته.
إذا كانت جائحة الفيروس التاجي قد نجم عنها اقتناع بعض هؤلاء المبتلين بطاعون الأفكارالخاطئة في تغيير سبلهم، فقد نجم عنها خيرٌ جليل.
 
Medium
* مارتن فيرجسون سميث أستاذ فخري للكلاسيكيات، قسم الكلاسيكيات والتاريخ القديم بجامعة دورهام، بريطانيا.