مستقبل الحكومة الإلكترونية في العراق

علوم وتكنلوجيا 2021/07/15
...

  الدكتور صفد الشمري
 
يعلن العراق منذ سنوات عن مشروع متكامل لحكومته الإلكترونية، التي يمكن أن تعمل على تحسين قطاعات الاداء، وتهم بمعونة مساعي مواجهة الفساد، بحكم انتهاج أطر الشفافية التي توفرها أوعية هذا النظام، في وقت يشتغل فيه العالم على تنمية القدرات البشرية في دولهم على مسارات التعاطي مع مثل تلك النظم الإلكترونية، الأمر الذي تطلب تغيرات في عقلية الاداء الاداري بالمجمل، لا في المضمار الرقمي حصراً، في ظل نتائج مسح أممية، اظهرت آخر تقاريرها عدم وجود العراق في مؤشرات الامم المتحدة لتنمية الحكومات الإلكترونية، في مقابل دول عربية حققت معايير مرتفعة للغاية!.
ترتبط دلالة الحكومة الإلكترونية بالخدمات التي تقدمها القطاعات الحكومية لجمهور المواطنين المحليين، وغير المحليين من مقيمين على أراضيها، أو من لديهم مصالح مع تلك القطاعات في الخارج، عبر الأوعية الرقمية المتعددة، وهي تتطلب بالتالي توفير بنية تحتية تستطيع استيعاب تطور المتطلبات المستمر، وتنمية القدرات البشرية فيها على الاستخدام الرقمي الرشيد، وبما يهدف إلى تحقيق أهداف هذا النظام الإلكتروني، بمسعى توفير مجال أفضل للأعمال، وفق أطر الشفافية والحوكمة الرشيدة، وتوسيع مشاركة الجمهور نفسه في صناعة السياسات العامة أو مراقبة تنفيذها على أرض الواقع.
وتجمع الدراسات على أن الإعلان الرسمي عن مصطلح “الحكومة الإلكترونية” كان قدر ورد لأول مرة بشكل دولي ضمن سياق خطاب للرئيس الإميركي السابق بيل كلينتون في 1992، ومن ثم بدأت المنظمات الدولية بالعناية بأطروحات الحكومة الإلكترونية، عن طريق الفعاليات المتعددة، بهدف حث الحكومات في دول العالم على إطلاق حكوماتها الإلكترونية، حتى أقرت هيئة الأمم المتحدة تقليداً يدفع باتجاه مسح واقع تطور الحكومات الإلكترونية، على مستوى العالم، ونشر نتائج تلك المسوحات بتقرير دولي، في كل سنتين، بجميع اللغات العالمية الحيّة، ومنها العربية، صدرت النسخة الأولى منه في 2001، واستمرت التقارير المتكونة من اصدار يـتألف من أكثر من 350 صفحة، في كل مرة، بالصدور حتى تقريرها الأخير، الذي صدر أواخر 2020، أظهرت مؤشراته تطوراً في نمو الحكومات الإلكترونية العربية بشكل عام، غاب العراق منها.
 
المواطن الإلكتروني
على الرغم من توافر بعض مقومات العمل بنظام الحكومة الإلكترونية في العراق، إلا أن تحديات تتعلق بالدرجة الأساس مستوى الوعي الرقمي العام في البلاد، قد حالت دون الإفادة من مميزات هذا النظام بشكله المعروف لغاية اليوم، بينما أطلق العراق (حكومة المواطن الإلكترونية)، بوصفها قالت الجهات المعنية انها “بيئة عمل وطنية للوزارات والمحافظات والجهات غير مرتبطة بوزارة، تعمل ضمن شبكة الانترنت من خلال بيانات وطنية موحدة لطلبات وشكاوى المواطنين... وان حكومة المواطن هو نتاج تطوير تجارب سابقة متسلسلة بدأت ببرنامج (أبجد) عام 2011 وهو أرشفة الكترونية داخلية وبرنامج طلبات المواطنين الالكترونية عام 2012، وصولا الى هذا البرنامج، الذي يتضمن أربع مراحل هي تقديم الطلبات الكترونيا وتسجيلها ومتابعتها وأرشفتها، ويهدف الى تطبيق (الاتمتة الشاملة) للتعامل بين المواطن ومؤسسات الدولة، وتأسيس علاقة وطيدة بين أقسام شؤون مواطنين في الوزارات والمحافظات،والتقليل من التعامل الورقي وتوفير مؤشرات لأداء التشكيلات الحكومية.
وقد عممت الحكومة في كتاب لها إلى القطاعات الحكومية كافة في 2014 بضرورة التعاطي مع هذا البرنامج، وانه {نظراً للتوسع الحاصل في استخدام برنامج حكومة المواطن الالكترونية، ولتسهيل تداول العنوان الخاص بالموقع الذي أصبح بوابة لشكاوى المواطنين لعدد كبير من التشكيلات الحكومية، نود احاطتكم علماً بتخصيص اسم النطاق {ca.iq}، بعدّه رابطاً مختصراً للدخول للبرنامج، وكجزء من التزام الحكومة في الإصغاء لأصحاب المظالم والوصول اليهم، وبغية الترويج للبرنامج نوصي بإعداد خطة إعلامية وإعلانه بوابة حكومية موحدة لشكاوى المواطنين وطلباته}.
 
الدخول إلى البرنامج
يعتمد استخدام برنامج حكومة المواطن الالكترونية على واجهة رئيسة تضم خيارين اثنين، وهما تقديم المتطلبات والشكاوى، ومتابعة المتطلبات السابقة، في حال كان المستخدم كان قد تقدم بها، على وفق رقم المتابعة الذي يحتفظ به، وفي حال انه اختار أيّا من الخيارين ينتقل النظام به إلى واجهة الدخول، التي تعتمد على البريد الإلكتروني للمستخدم نفسه، وكلمة المرور التي يتم منحه إياها، وفي حال دخوله لأول مرة، يتوجب عليه اختيار أيقونة المستخدم الجديد، لغرض التسجيل والحصول على كلمة المرور، وبعدها يدخل الى الواجهة الثانية التي تستلزم تقديم بعض البيانات الشخصية، من قبيل: الاسم الكامل والمهنة وتأريخ الميلاد ورقم الهاتف والبريد الالكتروني والمحافظة والمنطقة وأرقام المحلة والزقاق والدار، لينتقل بعدها الى مرحلة تسلم كلمة المرور، بوساطة البريد الإلكتروني المختص بالمستخدم، الذي دخل بوساطته الى النظام لأول مرة، وبما يعمل على إنشاء حساب دائم للمستخدم، يمكنه استعماله كلما دعت حاجته الى ذلك.
وبعد دخول المستخدم الى نافذة النظام عليه اختيار الجهة المعنية بالمتطلب أو الشكوى، وتحديد نوع المحتوى الذي يريد إرساله عبر النظام بتحديده لأحد الخيارات المتاحة امامه إلكترونياً على شكل قوائم منسدلة، ويمكنه بذلك تقديم الملخص بشكواه، مع اتاحة فرصة تعزيز الملخص بملفين أثنين يمكنه تحميلهما عبر النافذة نفسها، على وفق صيغة (PDF).
ويحرص النظام الإلكتروني على توفير فرصة لمتابعة المستخدم للمتطلب الذي يقدمه، باختيار أيقونة متابعة المتطلبات السابقة في الواجهة الرئيسة، وباعتماده لبريده الالكتروني نفسه، الذي سجل فيها متطلبه أو شكواه لأول مرة، وبكلمة المرور ذاتها، كما يمكنه متابعة متطلب سابق، من دون الدخول الى حساب المستخدم، بإدخال رقم هذا الطلب في أيقونة منفردة تحت مسمى (رقم المتطلب للمتابعة)، ومن ثم يضغط على (بحث)، إذ يمكنه الحصول على هذا الرقم عن طريق بريده الإلكتروني، فور تسجيله للطلب لأول مرة، وعليه الاحتفاظ به، كما يتيح النظام تعديل المستخدم للبيانات الشخصية الخاصة به، أو تغيير كلمة مروره.
 
المؤشر الدولي
في مسعى توفير فرصة لتنافس الدول على تنمية حكوماتها الإلكترونية، أطلقت لجنة الامم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (أسكوا)، والتي يبلغ عدد الاعضاء فيها 20 دولة، يعد العراق من مؤسسيها منذ العام 1973، بالتعاون مع ادارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الامم المتحدة، وهيئة تنظيم الاتصالات بالامارات العربية المتحدة النسخة العربية لمسح الحكومة الإلكترونية 2020، في اجتماع لها بأيلول 2020، وتم انعقاد حفل الإطلاق بتطور الحكومة الإلكترونية في المنطقة العربية على هامش الاجتماع الثامن لمديري برامج الحكومة الإلكترونية العرب.
وقد شارك في الاجتماعين نحو 75 خبيراً من الدول العربية والمنظمتين الشريكتين، خرجوا بعدد من التوصيات الهادفة إلى تعزيز خدمات الحكومة الإلكترونية في المنطقة، بناءً على التجارب الوطنية ونتائج المسح الدولي، وشدد الاجتماعان على الحاجة الملحّة للتحول الرقمي في المنطقة من أجل ضمان استمرارية عمل جميع المؤسسات، خاصة المؤسسات الحكومية، لاسيما في ظلّ الأزمات القائمة والتدابير المتخذة لمواجهة جائحة كورونا، وعلى أهمية تحسين جودة البيانات ودقتها وعلى الحاجة لاستخدام اللغة العربية من أجل توسيع إطار نشر المحتوى حول التجارب الإقليمية ونتائج المسح، وعلى ضرورة التعاون بين البلدان ومع الهيئات الإقليمية والدولية من أجل التكامل وتفادي الازدواجية في الجهود في عملية التحول الحكومي الرقمي في المنطقة.
الاجتماعان تزامنا مع نشر الامم المتحدة الطبعة الحادية عشرة اواخر 2020، من اصدار يصدر كل سنتين وهو يختص بتتبع التنمية العالمية للحكومات الالكترونية بجميع الدول الاعضاء بالأمم المتحدة، وقالت الأمم المتحدة في اصدارها الأخير (مسح الحكومة الالكترونية 2020) الى أنها تتناول الاتجاهات الحديثة في تنمية تلك الحكومات، عبر مرّكب يحتوي على ثلاثة مكونات هي مؤشر الخدمات عبر الانترنت، ومؤشر البنية التحتية للاتصالات ومؤشر رأس المال البشري، وتكون تلك المؤشرات بذاتها مقياسا يجري تحليل نتائجه.
ويرصد مسح العام 2020 المزيد من التحسن في الاتجاهات العالمية بتنمية الحكومات الالكترونية وانتقال العديد من الدول من المستويات الدنيا الى المستويات الاعلى، فقد حققت 57 دولة قيماً مرتفعة جداً، مقارنة بالعام 2018، الذي حلّت في دراسته 40 دولة بتلك المرتبة، وبالمقارنة بين الدراستين فان زيادة مؤشر تنمية الحكومة الالكترونية المرتفع كان بنسبة 36 %، ومؤشر التنمية المتوسط بنسبة 31 %، ومؤشر التنمية المرتفع جداً بنسبة 29 %، في وقت انخفضت فيه نسبة مؤشر تنمية الحكومة الالكترونية المنخفض من 8 % الى 4 %.
على الصعيد العربي، فإن من بين الدول التي بلغ عددها (17) دولة اضافتها مؤشرات العام 2020 لأول مرة على فئة مؤشر التنمية المرتفع جداً، كانت هناك السعودية والكويت وعمان، بينما صعدت مصر والجزائر الى فئة مؤشر المرتفع بشكل طفيف، وكانت السودان واليمن وجيبوتي وجزر القمر بفئة المؤشر المتوسط، والصومال وجنوب السودان ضمن مؤشر التنمية المنخفض.
ويفيد الاستطلاع الدولي بأن الدول التي تمتعت بقيم مرتفعة أو مرتفعة جداً لمؤشر تنمية الحكومات الالكترونية تميزت بسمات مشتركة، ومنها إن مؤسساتها طورت نهج التفكير المنظومي في صنع السياسات وتقديم الخدمات، باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتعزيز الروابط التشغيلية، على الرغم من عدم وجود مخطط لتصميم المؤسسات التي يمكنها من تعزيز تكامل العمليات والبيانات بين الهيئات والمستويات الحكومية، الا أن الستراتيجية الاساسية التي تتبعها الدول ذات القيم المرتفعة في مؤشر النمو الاقتصادي العالمي، تتمثل في إعادة تنظيم الهياكل المؤسسية والتنظيمية لإنشاء تدفقات عمل افقية ورأسية قبل تنفيذ عملية الأتمتة.
وقد أنشأت العديد من الدول او عدّلت الهياكل التنظيمية، التي تدعم التحول الرقمي بشكل أفضل، ومن بين الدول الاعضاء في الامم المتحدة البالغ عددها 193 دولة، فان كبار موظفي المعلومات في 142 دولة تتطلب القيام بتغييرات في الثقافة التنظيمية الحكومية على المستويات جميعها، وتنمية القدرات الفردية الجديدة في القطاعات العامة والمجتمع بشكل عام، فالحكومات الالكترونية هي ليست نهاية الطريق، بقدر ما هي وسيلة لتحسين الخدمات.
وبموجب النظرة الأممية فان الاستخدام الامثل للبيانات الحكومية يؤدي الى زيادة الانتاجية والمساءلة وادماج المؤسسات العامة، ويساعد الحكومة المرتكزة على البيانات في بناء الثقة والاخلاص العام، في وقت لم تتحقق بعد فوائد البيانات الحكومية في الدول ذات الاوضاع الخاصة وتشمل اكبر العقبات التي تعترض التقدم في هذا المضمار، الافتقار العام الى فهم البيانات وعلوم البيانات الرقمية، والأولوية السياسية، وغياب قيادة البيانات وقيود الموارد والمخاوف بشأن جودة البيانات نفسها، وتراجع الأمان والخصوصية، الامر الذي يتطلب في حال البحث عن القيمة العامة للبيانات رؤية ثاقبة ونهج طويل المدى ينطويان على اتقان اقتصاديات وسياسات حوكمة البيانات وادارتها، والتنقل بفاعلية في تطور امن البيانات والخصوصية، وهو مدعاة تبني الحكومات نهجاً كلياً وشاملاً للحكومات الالكترونية، بوضع اطار شامل لحوكمة البيانات، مدعوماً بستراتيجية بيانات وطنية وقيادات قوية لتلك البيانات ونظام إيكولوجي فاعل لها.
 
وماذا بعد؟
تحث الأمم المتحدة حكومات العالم على {استخدام التكنولوجيات الرقمية، لتغيير طريقة عملها بطرائق مبتكرة ومشاركة المعلومات واتخاذ القرارات وتقديم الخدمات، فضلاً عن الشراكة مع القطاعات والأشخاص لمواجهة تحديات السياسة العامة التي تهم الجمهور}، وهذا ما يدعو المختصين في العراق إلى ضرورة تبني وقفة حقيقية لمواكبة المستجدات العالمية، وان يعمل على توظيف قدراته البشرية والتقنية للانتهاء من مشروع الحكومة الإلكترونية العراقية، والتنافس مع الدول الاقليمية ضمن المؤشرات العالمية، خاصة بعد ان صار التحول الرقمي الحكومي اكبر من مجرد دمج التكنولوجيا في الحوكمة، وتعداه ليبلغ التغييرات الاساسية في عقلية الموظفين العموميين وفي آليات تعاون المؤسسات العامة، بدليل نتائج المسح الأممي الذي شدد على أن الدول التي استقرت في المستويات الاكثر تقدماً بتنمية الحكومات الإلكترونية، هي تلك التي اهتمت بالقدرات البشرية.
*خبيرالتواصل الرقمي