عفاف مطر
حين تكون ثيابك منتشرة على الأرض، أما الأواني فهي تملأ المجلى، وأحذيتك منتشرة في كل مكان، تحت الكنب، وتحت السرير، وفردة تجلس بارتياح على الطاولة، وأخرى مفقودة وما زلت تبحث عنها، فاعلم أنك على أبواب الاضطراب النفسي، وحتى لا تدخل فجوة الاضطراب التي من الممكن أنْ تتطور الى اكتئاب وشوزفرينا وقد تصل بك الى الانتحار، هنا عليك الاستعانة بالـ{لايف كوتش}. الى أي مدى هذا الكلام حقيقي؟
لماذا صرنا نسمع مؤخراً عن انفجار عددي بما يسمون أنفسهم (لايف كوتش)؟ لماذا يلجأ الكثير منا الى الاستعانة بالـ{لايف كوتش}؟ هل يعقل أنَّ أغلبنا متعب؟ إذنْ لماذا الـ{لايف كوتشرز} ليسوا متعبين مثلنا؟ للتوضيح؛ اللايف كوتش هو شخص يحاول ترتيب أفكارك، وتحديد أهدافك، والتسامح مع ماضيك والتخطيط لمستقبلك.
منذ ثمانينيات القرن الماضي انتشرت كتب التنمية البشرية، وأغلبها لا ترتكز على أساس علمي وأكاديمي، كتب تتحدث عن السعادة والنجاح والثراء والتغلب على الصعوبات والتحفيز الذاتي وفن الإقناع.. الخ، وقد راجت هذه الكتب بصورة هائلة، وبازدياد مدربي التنمية البشرية أو ما أصبح يطلق عليهم لاحقاً بـالـ{لايف كوتشرز} ازدادت بضاعتهم التي يروجون لها ودخلوا منطقة الطب النفسي، كيف تحارب الاكتئاب وعادات تخلصك من القلق والتوتر.. الخ، الأمر الذي جعل علماء النفس يجتمعون في الاتحاد العلمي للإدارة في أميركا، وهو من أهم مراكز البحث العلمي في أميركا والعالم، ورأوا أنَّ الخطأ كان خطأهم، ذلك أنَّ نتاجهم المقروء والمسموع يرتكز على نشر ووصف الأمراض النفسيَّة على رأسها الاكتئاب والتوتر لمساعدة الأشخاص على الوصول الى الحالة الطبيعيَّة المفترضة.
مارتن سيلجمان دكتور عالم نفس أميركي ورئيس الاتحاد الأميركي لعلم النفس اشتغل على دراسة أكاديميَّة، تهدف الى معرفة ما يركز عليه علم النفس، ووجد أنَّ جهود علماء النفس تركز على تصليح العيوب وتساءل في الدراسة: هل هو هذا الواجب الوحيد لعلم النفس؟ أم أنَّ لعلم النفس دوراً أهم، يهدف هذا الدور الى الارتقاء بالإنسان الطبيعي الى حالة أفضل؟ وتساءل لمَ لم يتحدث هو وزملاؤه عن مفاهيم إيجابية مثل التفاؤل والشجاعة والمواجهة والتخلص من الخوف والتردد؟ حينها ظهرت حركة جديدة في علم النفس، تسمى بعلم النفس الإيجابي، الذي يركز على المفاهيم الإيجابية شرط خضوعها الى أسس البحث العلمي والأكاديمي، حتى لا تكون عشوائية مثل كتب التنمية البشرية، التي يعتمد كتّابها على تجاربهم الشخصية، التي وبكل تأكيد لا تناسب الجميع، لأنها حالات خاصة وليست قواعد تشمل الجميع أو الأغلبية على أقل تقدير؛ لهذا على اللايف كوتشرز أنْ يدركوا أنهم ليسوا أطباءً نفسيين، ولا ينبغي عليهم أنْ يقدموا نصائح لاتخاذ قرارات قد تكون مصيرية، مثل قرار الطلاق، أو قرار الإنجاب أو عدمه، أو الانفصال عن الأهل أو الأصدقاء، أو ترك عمل أو وظيفة ما.. الخ، وإنما عليهم أنْ يدركو أنَّ واجبهم يتلخص في مساعدة شخصٍ ما في ترتيب أفكاره، بمعنى لو كانت لديك عدة خيارات وأنت حائرٌ في اتخاذ القرار المناسب، فأنت تستطيع أنْ تفكر مع اللايف كوتش بصوتٍ عالٍ، ليساعدك هذا الحوار المعلن على الاختيار الصحيح، أو يساعدك على اللجوء الى الشخص المناسب في الاختصاص المناسب. مشكلة أغلب ممن يلجؤون الى اللايف كوتش تكمن في اعتقادهم أن الكوتش هذا قادر على أن يوصلهم الى السعادة؛ وهو أمر غريب، لأن السعادة كمفهوم ليس محدداً، كما أنَّ السعادة مسألة نسبية، فإذا كنت أنت عزيزي القارئ الحزين لا تعرف ما يسعدك ولا تعرف ما هو سبب حزنك، كيف للّايف كوتش أنْ يعرف؟ يؤكد علماء النفس أنَّ التركيز على اللحظة الآنية هي السعادة، والدليل على ذلك أنَّ أغلب الناس الذين يعتقدون أنهم ليسوا سعداءً، ستتفاجأ حين تعلم أنَّ سبب حزنهم هو إما حدث حصل في الماضي، أو خوف من حدثٍ قادم في المستقبل، فالتفكير في الماضي وتوقع المستقبل يؤدي الى ظاهرة (Over thinking) وهذه الظاهرة هي التي تمنع صاحبها من الاستمتاع باللحظة التي يعيشها.
ما بالنا نشعر بالسعادة إذا شاهدنا فيلماً حزيناً، كفيلم تيتانك بنهايته الحزينة؟ حتى أنَّ الكثير منا شاهده أكثر من مرة! يفسر علماء النفس هذه الظاهرة بأن المشاعر السلبية المرافقة لمشاهدة فيلم حزين ضرورية لخلق حالة التوازن، فعلى سبيل المثال، لحظات الحزن تجعلنا نقدر لحظات السعادة أكثر حتى لو كانت أقصر، كما أن مخاطر عدم الإحساس بالألم النفسي مثلها مثل مخاطر عدم الشعور بألم النار حين تحترق أطراف أصابعنا وهكذا.. الخ، لكن في المقابل يخبرنا علماء النفس عن قاعدة (3: 1) التي تنص أنَّ مقابل كل شعور سلبي يجب أن يكون هناك ثلاثة مشاعر ايجابية. على هذا الاساس وبحسب مفهوم علم النفس الايجابي وبدرجة وعي معقولة نستطيع أن نقول إننا لسنا بحاجة الى لايف كوتشرز كما يحاولون أنْ يروجوا لأنفسهم ولبضاعتهم، لكن لو وجدت أن النسبة وصلت لـ 4: 1 أو فما فوق هنا فقط عليك أن تعلم أنك تحتاج الى لايف كوتش أو طبيب نفسي إيجابي.
تجار السعادة كثر وبضاعتهم أكثر، وكلما ازداد عددهم اعلم أنَّ نسبة الغش ستكون أكبر، فلا تشتر بضاعة أنت لا تحتاج إليها، لا سيّما أنَّ من غرائب هذه الفترة الزمنية التي نعيشها أنَّ اللايف كوتش أصبح مكملاً للوجاهة الاجتماعية والبرستيج.
بيني وبينكم، أحب أنْ أحضر محاضرات اللايف كوتشرز لأنهم يجعلوني أشعر بالسعادة فعلاً، لأني أضحك مما يقولونه، إنهم يحاولون أنْ يقنعونا بأنهم أشبه ببوذا أو لقمان الحكيم، احضروا واستمتعوا بكم التفاهة والنظريات الساذجة التي يتحدثون عنها.