جواد علي كسار
لم تكن خماسية «مدن الملح» للروائي السعودي الراحل عبد الرحمن منيف، مجرّد عمل أدبي محض، بقدر ما جاءت تعبيراً عن واقع اجتماعي وسياسي عاشه بلده؛ في واحد من أبرز تحوّلاته الكبرى؛ من البداوة إلى التحضّر، ومن اقتصاد الرعي والصحراء، إلى اقتصاد النفط.
ففي الجزء الأول «التيه» يضع اليد على ظهور النفط ومتغيّرات بناء المدن الجديدة، وفي الجزء الثاني «الإخدود» يُؤشّر إلى إشكاليات انتقال السلطة ومغامرة الدخول إلى عوالم السياسة الدولية، وفي الثالث «تقاسيم الليل والنهار» ملامسات عميقة للتحوّل إلى حكم القبيلة المنفردة، وفي الرابع «المُنْبَت» رصد للصراع بين الماضي والسلطة المحدثة؛ أخيراً وفي الجزء الخامس «بادية الظلمات» نكون أمام قراءة للتبدّل الضارب في فضاء المكان والإنسان والعادات، التي نشأت مع تحوّلات ظهور النفط.
هذه الدلالات المجتمعيَّة بمحورية التبدّل الاقتصادي صوب عصر النفط وبفعله، وما تركته من آثار في الثقافة والسلوك، جاءت واضحة حتى في عناوين هذه الخماسية، التي تحوّلت إلى مصدر «انثربولوجي» خصب لدراسة أوضاع الجزيرة العربية.
ما تتوق إليه نفسي أنْ أشهد عملاً مماثلاً، لكن هذه المرّة تحت عنوان: «مدن الماء!». لتوضيح المراد سأبدأ بمثال عُرفي، رغم إدراكي أنَّ العُرف وإنْ كان يساعد على فهم الظواهر، لكنه يعقّد الحلول في العادة. فقد كنتُ مرّة في زيارة إلى بيت قريب مقرّب لي جداً في الكوفة، عندما لاحظتُ أنه يستفيد من «خزّان» ماء في ساحة البيت، لأنَّ مياه الإسالة لا تصل إليه، مع أنه لا يبعد عن فرات الكوفة، إلا بألفي متر أو أقلّ.
تكرّرت الزيارة والظاهرة نفسها تتكرّر، وقد اختبرتُ حنفيَّة الإسالة بنفسي مرّات عديدة، لكي أتأكد من انقطاع المياه غالب الأوقات، أو ضعفها بما لا يلبّي الحاجات اليوميَّة لمنزل عادي.
في البصرة تبرز الظاهرة نفسها، عندما مكثتُ فيها عشرة أيام، لأشهد معاناة الناس من مياه الشرب، وأحياناً مياه الاستعمالات المألوفة، مع أنَّ هذه المدينة تنام على ضفاف مجمع نهرين، هما من أعذب أنهار الدنيا وأشهرها.
قد يظنّ البعض خاطئاً، أنَّ أزمة المياه الحالية في الأهواز وعبادان وخرمشهر وبقية مدن إقليم خوزستان داخل إيران، هي أزمة جديدة، وهذا غير صحيح بتاتاً، ففي نطاق عملي في الإعلام تابعتُ تجدّد هذه الأزمات منذ ثلاثة عقود.
ربما تكون هناك أزمات لمدن أُخر غير هذه؛ في مصر والسودان وبقية بلاد الله، والسؤال الذي أُحار فيه ولا أجدُ له جواباً؛ لماذا تعيش «مدن الماء» أزمة في عنصر قوّتها، حيث تتوافر فيها الأنهار العذبة والمياه الصالحة، وهي تعاني الظمأ؟!