قراءة في كتاب المفتاح في قلب الرمال.. يوميات صحفية.. شجن البوح وسيرة المكان

منصة 2021/08/02
...

 عبد الرحمن الرياني*
في البداية لابد من التنويه حول هذه القراءة لكتاب{المفتاح في قلب الرمال» للكاتب د. صباح علال زاير الصادر عن مؤسسة اروقة للدراسات والترجمة والنشر/ القاهرة 2021 بكونها محاولة لإبراز السمات الرئيسة له، فالمجال هنا  لا يتسع ولايسمح بالمرور على بقية النصوص تفصيلاً. الكتاب بحجمه الصغير يحتاج إلى كثير من الوقت  لاستعراضه والإلمام بتفاصيله، وهذا الأمر نادر الحدوث، فكل نص في الكتاب يحتاج قراءة متأنية تجعلك تفرد لها مساحات، وهو مايجعله يختلف عن كتب أخرى، ربما أحجامها كبيرة وصفحاتها تفوق صفحاته بأضعاف، لسبب رئيس وعامل مهم وهو أن محتوى الكتاب حالة اختصار لعناوين عريضة تشكلت خلال أكثر من نصف قرن، ولهذا ما سيتم تناوله هو تكنيك الكتاب وعمقه الفلسفي وفق ما تقتضيه ضرورة   اختزلت أساليب متنوعة من الكتابة مابين الصحفية بأداتها المتمثلة في التحقيق القائم على السرد الصحفي،
 ومابين الكتابة الصحفية التي عمد من خلالها الكاتب إلى سرد الموضوع باسلوب أدبي رفيع اراد منه تحويل المادة كما لوكانت قصة قصيرة  بنفس التحقيق الصحفي القصصي، وهو النوع الثامن من فنون التحقيق .
السيرة الذاتية بشكلها الواقعي تبرز وكأنها مصالحة مع النفس، والتحقيق الاستقصائي الصحفي المكتوب ايضا بلغة القصة كما في ص95 والمعنون ب»أغرب قصة في حياتي» حيث  قصة ناصر الذي حُكم عليه بالمؤبد، واستطاع الكاتب أن يخرجه من السجن وينقذ حياته. هذا النوع الممتع  المتعدد في فنون الكتابة يجبرك بما يحمل من أدوات ومفردات التشويق المستخدمة بعناية وبعفوية على  أن تنحاز للنص وتمضي في القراءة   من النص الأول لا تتوقف  الا عندما تصل إلى ملحق الصور لتكتشف أنك تريد إعادة القراءة مرات ومرات أخرى السبب في ذلك يعود إلى كثافة المشاهد والأحداث والتي يكفي أن يتحول بعضها إلى رواية.
 
سيرة الأم والحكاية الكبيرة
 قدرة الكاتب على التعامل بسلاسة مع المفردات وتصوير المكان والحدث والانتقال الهادئ الذكي بدون تكلّف أو تصّنع تجعلك تشعر أنك أمام كاتب يجيد مهنته كصحافي محترف ويجيد الكتابة بالإسلوب الأدبي القصصي المشّوق، نصوص قصيرة لكنها ممتلئة بالأحداث مكثّفة بالوقائع ، هذا النص القصير المكثّف تجده بوضوح في نص رقم (2) عنوان النص (أمي لن تحتاج لمن يغمض لها عينيها ) في هذا النص نلمس فنون الكتابة بشقها الأدبي والصحفي ابتداءً من المسمى والدالالة والمحتوى كيف تعامل الكاتب مع النص بدلالاته الأم التي فقدت بصرها في عام 1952م بعد أن وضعت مولودها الثالث هي التي كانت تصر دائما عليه أن يقوم بإشعال عود الشخاط عندما تبدأ بطهي الخبز في التنور كانت عدا ذلك تتعامل مع التنور كامرأة مبصرة وليست بصيرة هذه الحالة خلقت وولدت لدى الأبناء الصغار نوعا من الحيرة حول اصرارها دائما  على أن يقوم بإشعال عود الشخاط مقدمات كثيرة اختزلت في ذاكرته خلقت وعززت تلك الحيرة فهو صباح أوصبوحي كما كانت تناديه أصيب وهو في سن الرابعة بما يعرف بمرض العشو الليلي، وكانت أمه تقتاده إلى فراشه بيدها كي يصل إلى الفراش لينام على السرير الخشبي (الجرباية ) كما يسموه في الإرياف. الأسئلة التي كانت تتزاحم في رأسه هي تلك المرأة التي تمسك بأصابعي كل مساء كي تودعني منامي لماذا تسألني عن الخبز؟ وماالسبب الذي يجعلها لا تتولى مهمة اشعال عود الكبريت ولماذا تضع راحة يدها على غير الأشياء التي تروم الوصول لها قبل أن تستدل عليها بعد ذلك بلحظات. طاسة الماء لا تمسك بها مباشرة كما نفعل نحن كذلك الحال لبقية الحاجات، أما الوصول إلى نعالها فإن جهدا كبيرا تبذله قبل ذلك إلى أن يسرع أحدنا لوضعه أمامها، وهي في ذات الوقت حين تعاقبنا، وهو نادراً ما يحصل، فإن ضربتها الخفيفة لا تتم إلا حين تتحسس المكان قبل الضربة خشية أن يكون في العين أو الوجه أو ليس في الموضع الذي تريد، لكن كيف اكتشف وأدرك أنها لاتُبصر كان ذلك أثناء الاستحمام: سبب الحاحها حين تحممنا فهي كلما اجتهدت في غسلنا اعتقدت أننا بحاجه إلى المزيد حتى يعلو صراخنا، حينها ينتهي الأمر ونغادر الحمام، أدرك ذلك ايضا عندما كان الأطفال بعمره يسألونه عن أمه، إذ إنهم لم يرونها كبقية الأمهات، فيعتقدون أنها ميتة، كان الدافع هو أنها لم تكن تريد أن تظهر خوفا على الأطفال حتى لا يعيرونهم بعبارة أولاد العمياء. هذه الأم هي من كانت الدليل للأسرة في سنوات الحصار المظلمة فهي التي كانت تمسك بهم لايصالهم إلى ابواب الغرف فور انطفاء التيار الكهربائي.
 
هوية المكان وروحه
للمكان في النص المكتوب روحه وحالة الأنسنة التي تطغى على ما سواه، سوق الشيوخ أو سوق السعدون كما يطلق عليه البعض، كان حالة أنسنة لديها ذلك الميكانيزم المتحرك باستمرار، البداية كانت من روح الجد الذي كان في زمن السلطنة العثمانية المسؤول عن توزيع الأراضي بين الفلاحين، لكنه بروح المتصوف الزاهد والراهب التي تنفر من الماديات  لم تكن لديها الرغبة في أن تأخذ  ما يفيض عن الحاجة يقول الكاتب واصفا ذلك ولو كانت الشيوعية قائمة في عهده لقلت إنه كان من أنصار لينين.
في نص (هذا فمي فأين خدك؟) هذا النص بمفرداته حالة بكائية غزيرة الدمع موال أغنية حزينة لصياد عائد للتو من رحلته المتعبة الطويلة يقف على أطلال الرحيل عندما تعود به الذاكرة إلى سنوات مضت كان العيد بالنسبة له لحظات فرح، لكنه يعود هذه المرة ولا يجدها فيبدأ شريط الذكريات يعتمل بين حناياه أنها الأم يقول: خمسون عيداً لم يفارق قُبلتي، فكم كان ملاذي عند اشتداد احزاني وأفيائي حين يستعر القلب بنار الحياة؟ خمسون عيداً إلا عيدي الاخير كنت فيه غريبا  لأول مرة التفت فلا أجدك وأسافر وأنتِ في أقصى الجنوب فلا أجد أثراً لجسدك الذي كان إلى ايام قريبة يفترش السرير، بل حتى ذلك السرير فقدت أثره وأزيل من غرفتك التي لمحت في داخلها بضعة أثاث كثيراً ماكان يلامسك ، وفي مقطع آخر من النص اااااااه، كم تمنيت أن أبقى في غرفتك كل الليالي التي سبقت رحيلك؟ قلتِ لي يوما أنكِ تفضلين النوم والأحلام لأنكِ في عالم الأحلام يلغى عن عينيك العمى وترين الالوان كماهي ليس بلون أسود فقط، وحين أدرت لكِ ظهري متجها إلى بغداد تمنيت الا تكون أحلامك تلك هي الأخيرة، وأن خدك المعطر بآلام السنين وقسوة الزمان سيكون رفيق التراب قريبا، وأن صحن «التمن والماش» آخر ماطلبته مني. هذا النص المتحرك في المفردات ومشاعر الحزن هو الذي غلب على محتوى المُؤلف وولّد حالة من تراجيديا تشبه المكان وروحه الأم هنا هي العطاء وهي النخيل المعطاء والنهر المتدفق الذي رسم ملامحه هو وخلق تلك الحالة من البكائية التي لاتنطفئ جذوتها في آخر النص عبارة اين رائحة الحناء التي زاملت خصلات شعرك زمنا طويلاً وأين وأين؟ أمي هذا فمي فأين 
خدك؟ 
 
الوثيقة وسيرة المكان 
أمانة التوثيق في محتوى الكتاب الذي يعد من خلال توصيفه بالسيرة الذاتية تكشف عن حالة بوح واعتراف  من دون تنميق أو تزييف للوقائع والأحداث، وهذا يتأتى من خلال ذكر العديد من الشواهد التي تؤكد ذلك سواء في ما يتعلق بالذاتية أو في ما يتعلق بالصورة العامة للأمكنة  ومفهوم الدولة مثال ذلك: إن المكان المتمثل في قضاء سوق الشيوخ، اجتياح الحصبة  للقضاء في سنة 1957م ووضع الأرض والمحصول الذي يذهب، إما بسبب الفيضان أو بسبب الأبقار التي تدوس عليه أو بسبب الآفات والأوبئة التي تعصف به. للمكان حضوره في الرؤية الطبقية حتى في وسط الفلاحين نظرتهم السلبية الاجتماعية لمن يزرع الطماطم والخيار والباذنجان والباقلاء كونها معيبة، ليس لسبب مقنع، لكنه الموروث السلبي لا أكثر، وهنا كما يقال النص حمال أوجه فحتى الأرض التي يزرعها الفلاح ليست مُلكا له ولكنها مُلك لكبار الفلاحين والفلاح الفقير ما هو إلا مجرد شريك وفوق ذلك فهو المعني بتوفير البذور والأسمدة لزراعة الأرض، هوية المكان وبراءته وطُهره يمكن اختزالها في عبارة «عليك العباس نزلني راح أطيح « التي يرددها دائما شقيقه الأصغر أثناء ملاعبته له. هذه العبارة تؤكد هوية المكان الدينية كجزء من التركيبة والنسيج الوطني المتأصل في عراق الثمانينيات، وهو ما يظهر بجلاء دور المكان ومشاركته في حرب الثماني سنوات من منطلق وطني بعيداً عن التمترس والتموضع خلف أي انتماءآت اخرى، ذلك الانتماء هو الذي جعل الأسرة تقدم أحد فلذاتها شهيداً في الشلامجة في عام 1983م، وهذا الانتماء هو الذي جعل الصحفي في نص أغرب قصة في حياتي، حيث استخدم مهارته ومهنيته العالية كصحفي محترف في القيام بتحقيق صحفي استقصائي في بلد لم يكن هناك مناخ حر للصحافة الاستقصائية فيه، فتركيبة نظام الحكم لم تكن تتيح القيام بمثل تلك التحقيقات الاستقصائية، ومع كل تلك العقبات نجح صباح علال زاير في إنقاذ انسان من عقوبة السجن المؤبد واقنع أجهزة الدولة  بما قدم من أدلة وثوابت وبراهين من اطلاق 
سراحه.
 
*كاتب وروائي من اليمن