ميادة سفر
يعيش أغلب المفكرين غرباءً في مجتمعاتهم التي نشؤوا فيها، فلا هم قادرون على السير ضمن نسق القطيع، ولا أفكارهم قادرة على إيجاد موطئ لها في مجتمعات استساغت الجهل وتنعمت به، وانتشت بالخرافة والتخلف، تلك الغربة الفكريَّة الثقافيَّة التي يعيشها المفكر ليست إلا نتيجة وصوله إلى مستوى من الوعي يعلو بكثير على ما هو سائد في محيطه، وعي أدرك من خلاله زيف الأفكار والعقائد والموروثات التي لم تلد إلا أفراداً أكثر تطرفاً، وعقولاً أشد تحجراً.. غربة جعلت منه كائناً وحيداً منعزلاً، بعد أنْ فقد حس الانتماء إلى تلك الجماعة، ووجد نفسه غير قادرٍ على تقبل وقبول الجو الفكري الذي يعيش فيه، ولا صدى يتردد لأفكار أراد بها خلاصاً لأمته.
هي حال أغلب إنْ لم نقل كل إنسان أعمل عقله بحرية بعيداً عما هو متوارث، حالة يعيشها العبقري والمفكر والمثقف ممن تمكن بوعيه وفكره المتجدد من إعادة قراءة للماضي والحاضر والمستقبل برؤية جديدة، رؤية لن تتوافق حتماً مع مصالح أصحاب السعادة والفخامة والسمو.. لذا لن يجد كرسياً يجلس عليه في حفلاتهم وصخبهم، ولا منصة يعتليها ليصحح مسارات اعوجت من ثقل أحمالٍ بالية.ولأنَّ إنساننا اليوم اعتاد عيش البلادة والوجبات الجاهزة وخدمة التوصيل إلى المنازل والعقول، وتعود تسليم الأمر “لذوي الأمر” يفكرون ويخططون ويقررون عنه وهو مرتاح البال هانئاً في جهالته، فلن يقبل أي تغيير يمكن أنْ يمسّ طمأنينته المزيفة التي توهم أنها قمة الفردوس الذي يمكن أنْ يصل إليه، فنراه يهزأ بأصحاب العقول من مفكرين وعلماء، ويحاربهم ويشوه سمعتهم، دون أي استعداد للتفكير بما يطرح أمامه من فكر.
وعندما لا يعود المفكر قادراً على البقاء في محيط يحاصره بأفكار وآراء ومواقف تجتمع في نسقٍ واحدٍ، وتفوح منها رائحة ماضٍ متعفن، وتشي بأصنام عقلية غير قابلة على التحرك والتغيير، فلا سبيل أمامه إلا أنْ يلوذ بغربته، مكتفياً بأفكاره وما وصل إليه من نضجٍ ووعي، آملاً أنْ ينبعثَ إشعاعٌ تنويري ذات يوم يتلقف تلك الجهود الفكريَّة التي بذلها.
وإما.. أنْ يصرخ بصوتٍ عالٍ رافضاً ما حوله، معلناً مواقفه بجرأة، مقدماً علومه ومعارفه ونتائج أبحاثه، حاملاً روحه على كفه.. وتاريخنا حافلٌ بأعلام ومفكرين قضوا لأجل فكرة، ألم يكن الحلاج مثلاً ضحية اضمحلال فكري وتخلف عقلي في زمنه، وابن رشد، وأبو العلاء المعري الذي اتهم بالزندقة.. وغيرهم كثير، وإلى اليوم ما زلنا نسمع بين حين وآخر مقتل واغتيال مفكر هنا وناشط هناك لا لشيء إلا لأنه اختلف مع القطيع وتمرد عليه.
هل جنى عليه عقله ذاك الذي اغترف من كنوز المعرفة حتى الثمالة، فحمل معول فكره محطماً أصنام مجتمعه، معرياً هشاشة منظومته الفكرية والثقافية وحتى العقائدية؟ أم سيكون طوق نجاة شعوب ربما وعت يوماً تلك الأكاذيب التي آمنت بها؟. على هذا الأمل نحيا ونعيش.. وإلى أنْ يحينَ الوقت يبقى “ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم”.