هو أنت لمؤاخذة ديمقراطي؟

منصة 2021/08/04
...

  عفاف مطر
 
فيلم البداية للمخرج صلاح أبو سيف رائد الواقعية، ليس سوى شكلٍ سينمائي بسيط لقضيَّة كبيرة، ففي بداية الثمانينيات مع تولي الرئيس الراحل حسني مبارك الرئاسة في مصر، ومع سياسة الانفتاح التي انتهجها كانت ولادة هذا الفيلم العبقري، الفيلم من بطولة أحمد زكي ويسرا وسعاد نصر وجميل راتب، ومن تأليف الكاتب المميز لينين الرملي. 
أثار الفيلم جدلاً واسعاً بسبب إسقاطاته السياسيَّة والاقتصاديَّة، تلك الإسقاطات رأى الكثير من النقاد أنها لا تخص مصر فقط بل العالم العربي كله، وأثار حفيظة الرقابة المصريَّة قبل إجازته لعرضه، ومعروفٌ عن الرقابة المصريَّة أنها ملكية أكثر من الملك. يبدأ الفيلم بنجاة مجموعة من ركاب طائرة تسقط طائرتهم عرض الصحراء، ليبدأ النزاع حول وضع نظام حكم لتسيير الأمور في الواحة التي يسكنونها، الصراع بين رجل أعمال انتهازي وبين مثقف يؤمن بالديمقراطية والحرية. وضع الفيلم يده على نقطة مهمة، وهي كيف أنَّ البعض يستعمل الديمقراطية سلماً يرميه بعد وصوله للسطلة حتى لا يصعد عليه بعده أحد ليمارس ديكتاتوريته، أي أنَّ الديمقراطية قد تكون وسيلة للديكتاتورية، وهو دور نبيه بيه الذي استعمل الديمقراطية ليحكم أهل الواحة (ركاب الطائرة) وتمادى الى حد أنه جعلهم يعتقدون أنَّ استمراره بالسلطة هو حقه الطبيعي، وأنَّ أموال الواحة وإنتاجهم من الزراعة والتدجين ملك صرف له يعطي منه من يشاء ويحرم منه يشاء.
الفيلم لا يتحدث عن الصراع الدائر بين الديمقراطيَّة والديكتاتوريَّة فقط، بل عن كيف تُخلق الديكتاتوريات؟ نبيهاليا هو اسم الواحة الذي أطلقه عليها نبيه بيه بعد توليه السلطة، وهذه قمة الهيمنة، فقد أصبح يمتلك الواحة ومن عليها. نبيه بيه أعطى لنفسه امتيازات لا تحق إلا له، لأنه يعتقد أنه أفضل منهم، وهو طبع كل الدكتاتوريين، يعتقدون أنهم الأفضل والأنسب والأجدر في إدارة الأمور كلها. نبيه بيه استغل جهل الواحة ليدعم سلطته لهذا الغرض فاستقطب أول ما استقطب الفلاح سليم الذي أدى دوره حمدي أحمد، والعامل صالح الذي أدى دوره الفنان صبري عبد المنعم، ويقنعهما أنَّ خصمهم هو الشاب المثقف عادل (أحمد زكي)، وألصق به تهمة الإلحاد والكفر لأنه ديمقراطي والديمقراطيَّة كفر، وأنَّ من واجبهم مراقبته وإعلان العداء عليه، فاستخدم الدين وسيلة للسيطرة على الجهلاء لدرجة أنَّ الفلاح في أحد مشاهد الفيلم يسأل عادل قائلاً: {هو أنت لمؤاخذة ديمقراطي؟} لينين الرملي وصلاح أبو سيف بسطا قضية الصراع بين الديمقراطيَّة والديكتاتوريَّة عبر شخوص العمل والبيئة المحدودة المتمثلة بالواحة، فكان من أهم أسباب نجاح الفيلم فقط وإن كان نجاحاً متأخراً، بل وصوله بيسر وسرعة الى قاعدة جماهيريَّة واسعة ومن كل الأطياف والمستويات التعليميَّة.
 الفيلم لم يعرض فقط فشل السلطة في الوصول الى الجهلاء، بل عرض فشل المثقف في الوصول إليهم أيضاً، وذلك حين يعمدُ المثقف الى التحدث مع البسطاء بمصطلحات تتعدى قدرتهم الذهنيَّة. 
الفيلم ومنذ البداية يلقي الضوء على أساس الحكم الرأسمالي، ويرى أنَّ الرأسماليَّة هي حكم ديكتاتوري يعتمد على الهيمنة الاقتصاديَّة، لأنَّ الرأسماليَّة عبارة عن قلة من الأشخاص يستولون على الاقتصاد ومنابعه وعبر الإعلام الذي تمثله في الفيلم صفية العمري بدور شهيرة كامل الصحفيَّة، إذ يروج للعامة عبر الإعلام والصحافة بأنَّ هذه القلة من حقها الاستيلاء على الاقتصاد لأنهم الأذكى والأفضل. بالرغم من عرض الفيلم في العام 1986 إلا أنَّ القضايا التي تعرض لها ما زالت تُناقش حتى الآن في جميع البلدان العربيَّة.
نبيه بيه حينما شعر أنَّ عادل بدأ يؤلب أهل الواحة عليه، بدأ يشعر أنه على وشك فقدان الأسس التي تضمن له الاستمراريَّة وبالتالي هو مهدد، فما كان منه إلا أنْ يستعينَ بقوة مضادة تحميه، فما كان منه إلا أنْ استعمل صالح العامل لأنه قوي البنية وجاهل يسهل إقناعه وتسييره ليس ليحميه فقط بل وليعتدي على عادل بوصفه فاسداً ويريد إثارة الفتنة بين أهل الواحة، فصالح القوي والجاهل هو الاختيار الأنسب لنبيه بيه، ويعتدي صالح بالضرب على عادل الذي يدافع أصلاً عن حقوقه وحقوق البقية، وهو حال عساكر الأمن الذين تجندهم الحكومات في أجهزتها الأمنيَّة حين يعتدون على المتظاهرين الذين يطالبون بحقوق الشعب بصورة عامَّة، لأنَّ صالح يعتقد أنَّ نبيه بيه هو إرادة الله على الأرض، مع اشتداد الصراع بين نبيه وعادل يشعر نبيه أنه بدأ يفقد حتى حب صالح العامل وسليم الفلاح، فيقرر الهروب من الواحة ولكنْ بعد أنْ يحرقها.
فيلم البداية لصلاح أبو سيف بقي ربع قرن محدود المشاهدة حتى قيام الثورة المصرية في 25 يناير، ليتم اكتشافه مجدداً ويرد اعتباره. الفيلم إنتاج مصري لكنَّ عبقريَّة الكاتب والمخرج جعلته فيلماً عالمياً لتناوله قضايا تخصُّ كل الشعوب المضطهدة، وينتهي الفيلم برسالة واضحة، أنَّ من أوصل نبيه بيه الى سدة الحكم هم أنفسهم من أسقطوه.