يوجين ناغاساوا
ترجمة: جمال جمعة
قد تفاجأ إذا ما علمت أنَّ هذا الاقتباس الكئيب وردَ في نصٍ مكتوبٍ منذ أكثر من 1000 عام من قبل كاتبة يابانيَّة وسيدة بلاط تدعى ساي شوناغون.
خبرَ اليابانيون في العصور الوسطى أزمات تسببت في مآسٍ ووفيات غير متوقعة للعديد من الناس العاديين. في عمله هوجوكي Hōjōki {كوخ العشر أقدام مربعة}، على سبيل المثال، يصف المؤلف والشاعر في القرن الثالث عشر كامو نو تشومي بحيويَّة الأحزان والمحن التي قاسى منها المواطنون في كيوتو، الذين عانوا من سلسلة من الكوارث مثل الحرائق العظيمة، والزوابع، والمجاعات، والزلازل،
والطواعين.
في الغرب، غالبًا ما تُعدُّ الأزمات التي تهدد الحياة بمثابة تحديات للإيمان الديني. كيف يمكننا أنْ نصدق أنَّ هناك إلهًا كلّي القدرة والمحبة إذا كان ثمة الكثير من الألم والمعاناة في العالم؟ هذه هي مشكلة الإثم بالنسبة للمؤمنين في التقاليد اليهودية ـ المسيحية.
تأمّل مفكرو القرون الوسطى في اليابان أيضًا في الأزمات ضمن إطار ديني، لكن منظورهم كان مختلفًا بشكل جذري. لقد اعتبروا الوفيات المفاجئة والمأساوية في الأزمات بمثابة أمثلة على الحالة المؤقتيّة (ō mujō)، والتي تُعدّ، إلى جانب المعاناة (ku) واللا ذاتيّة (muga)، إحدى علامات الوجود الثلاث وفقًا للبوذية.
يكتب تشومي، على سبيل المثال، أنَّ الوفيات في خضم الأزمات هو تذكيرٌ لنا بأننا كائنات زائلة وعابرة تشابه الفقاعات الضئيلة العائمة في مجرى مياه يتدفق من دون توقف
عبر النهر.
الناسكون والمولعون بالحفلات
كيف كانت ردود فعل اليابانيين في العصور الوسطى على الكوارث والمآسي؟ من المثير للاهتمام أنَّ استجاباتهم كان بعضٌ منها مشابهًا لردود أفعالنا تجاه أزمة الفيروس التاجي.
كانت استجابة تشومي للكوارث والمآسي هي أنْ يكون ناسكًا، والذي يمكن مقارنته بنهج العزلة الذاتية الذي أُوصي به إزاء الجائحة
العالمية.
يؤكد تشومي أن أفضل طريقة للعيش بسلام هي الابتعاد عن أي خطر محتمل والعيش في عزلة. لقد اختار أن يعيش حياة بسيطة في منزل صغير مساحته عشر أقدام مربعة في الجبال. إنه يكتب:
قد يكون صغيرًا، لكنْ هناك سريرٌ للنوم في الليل ومكانٌ للجلوس في النهار. السلطعون الزاهد يفضّل قوقعة صغيرة لمنزله.
إنه يعرف ما يخبئه العالم. العُقاب النَّسري يختار الشاطئ البرّي، وذلك لأنه يخاف الجنس البشري.
وأنا كذلك الشيء نفسه. عارفاً بما يخبئه العالم وطرقه، فأنا لا أرغب بشيء منه، ولا أسعى وراء جوائزه. توقي الوحيد هو أنْ أكون في سلام، ومتعتي الوحيدة أنْ أعيش خُلُوّاً من المشكلات.
يبدي أوتومو نو تابيتو، وهو شاعر ونبيل من البلاط الملكي في القرن الثامن، تباينًا حادًا مع تشومي.
منهجه مع الكوارث والمآسي هو منهج المتعة. إنه يذكّر بأناس اليوم الذين يتجنبون عمدًا العزلة الذاتية وبدلاً من ذلك يقيمون الحفلات دون أدنى خوف من الجائحة. إحدى قصائد واكا “قصيدة قصيرة” لتابيتو تقول:
الناس الأحياء
سيموتون في النهاية.
وكذلك نحن، لذلك
طالما نحن في هذا العالم
دعونا نستمتع!
من ناحية الاستمتاع، يقصد تابيتو الاستمتاع بمشروب كحولي. في الحقيقة، القصيدة أعلاه هي من بين قصائده الثلاث عشرة التي كتبت في مدح “الساكي”. يقدّم تابيتو مذهبه في المتعة كشكلٍ من أشكال مناهضة التعقُّليّة. يقول إنَّ الأشخاص الذين ينشدون الحكمة ولا يشربون هم أشخاصٌ بغيضون وأنه لا يكترث فيما إذا كان سيتجسّد ثانية على صورة حشرة أو طائر طالما أنه يستطيع الاستمتاع في حياته الحالية.
قلقٌ أم ترفيه؟
إنْ حَكَمنا بالظواهر، فإنَّ النساك والمُتَعيّين يعيشون في تضادٍّ تامٍ مع بعضهم البعض. ومع ذلك، يتقبّل كلاهما بإيمانٍ راسخٍ وجهة النظر البوذيَّة بخصوص المؤقتيّة. يعتقد الناسكون أنَّ أفضل طريقة لعيش حياتنا العابرة هي بالقضاء على المخاوف غير الضروريَّة من خلال العزلة الذاتيَّة، حرصهم ليس على زيادة المتعة، بل على تقليل المخاوف. بينما يعتقد أتباع مذهب المتعة أنَّ أفضل طريقة لعيش حياتنا سريعة الزوال هي بإمتاع أنفسنا قدر الإمكان، وحرصهم هنا ليس على تقليل المخاوف بل على تعظيم المتعة.
أيّ نهج يستحق الثناء أكثر؟ من وجهة النظر البوذيَّة، يبدو واضحًا أنَّ النسكيّة هي الأفضل، لأنَّ البوذية تعلّم أتباعها التخلي عن جميع الشواغل الدنيويَّة. من خلال فصل أنفسهم عن الحضارة، سيمكن للنساك السعي وراء الاتزان (تشا)، وهي حالة ذهنية متوازنة تمامًا خالية من الاضطرابات العاطفيَّة. هذا ما يمكن حرثه لارتقاء المرء على امتداد الطريق صوب النيرفانا.
من ناحية أخرى، فإنَّ مذهب المتعة غير جدير بالثناء لأنه يفاقمُ فقط مخاوفنا الدنيويَّة. لا يستطيع أتباع مذهب المتعة الوصول إلى النيرفانا لأنهم يحاولون نسيان المؤقتيّة من خلال إسكار أنفسهم لا غير.
ومع ذلك، قد تكون للعزلة الذاتيَّة مثالبها الخاصة. كتب سايجيو هوشي، وهو شاعر من القرن الثاني عشر وراهب بوذيّ سعى أيضًا إلى التنسك:
ونذر بالتخلّي عن الدنيا
لكنه لم يستطع تقبّل ذلك
بعض الذين لم ينذروا قط
نبذوا العالم بعيدًا.
ينتقد سايجيو نفسه في قصيدة الواكا هذه. إنه يتساءل عما إذا كان ناسكاً مثله أفضل من الناس العاديين فعلاً. إنه قلق من أنه في حال اتخاذ مثل هذه الخطوة الجذرية مثل نبذ العالم والعيش في عزلة، قد يكشف عن ارتباط أوثق مع العالم مما لدى الناس العاديين. الناس العاديون الذين يعيشون حياة عادية يبدون أقل اهتمامًا بالرغبات الدنيويَّة من المثقفين التأمّليين أمثاله.
من المؤكد أنَّ الفيروس التاجيّ هو ظاهرة جديدة طرحت أزمات شخصيَّة جديدة ومخاوف ينبغي على الأفراد مواجهتها. ومع ذلك، فالأدب الكلاسيكي يذكّرنا بأنَّ الناس في الماضي خبروا أيضًا أزماتٍ وكوارثَ، أجبرتهم على التفكير في الطريقة التي ينبغي بها أنْ نعيش.
The Conversation