نوم السطوح بهجة للنفوس وهناءة للأجساد

منصة 2021/08/05
...

  حسين رشيد 
حتى وقت قريب لم يكن فصل الصيف بهذا الجزع والقرف عند بعض الناس، لارتفاع درجات الحرارة، وفقدان وسائل معالجة ذلك الارتفاع، الذي يصل الى معدلات تكون الأعلى في العالم، ومع ذلك يمارس المواطن العراقي تفاصيل حياته.
 
فشرطي المرور الذي له جُّل الاحترام والتقدير، يقف تحت لهيب الشمس الحارقة ينظم السير في تقاطعات مهمة، وعلى مقربة من شرطي المرور، يتوزع الصبية اناثاً وذكوراً على أطراف التقاطعات، هذا يبيع الماء البارد وآخر الكلينكس، وثالث يمتهن غسل زجاج السيارات، وآخر يبيع السكائر وكارتات شحن الموبايل، وهناك من يطلب المساعدة، في الصباح ثمة باعة للصحف معدودون يبيعون أعداداً قليلة جداً من الصحف اليومية التي تصدر، في المساء يأتي دور بعض الشباب الذين يبيعون الورود وهؤلاء يجيدون اصطياد الرجال كي يبتاعون منهم الورد الطبيعي.
وهناك عمال البناء، وأصحاب البسطيات، والعاملون في تصليح السيارات وسائقو السيارات العمومي، وباعة الشاي الجوالون، وعربات الأكلات الشعبية، وآخرون كثر يَفرض عليهم العيش وكسب القوت الحلال تجرع لهيب شمس الصيف، وساعات النهار التي تتمدد كلما ارتفعت درجات الحرارة وزادت حدتها، ورغم كل ذلك ترتفع نسبة شرب الشاي قياساً بالمرطبات والعصائر، ويحتل العراق المرتبة الثالثة باستيراد الفلفل الحار من تركيا بعد السعودية والإمارات.
كانت ظهيرة الصيف حتى قبل عقدين ونصف أو ما يزيد، ينعم فيها أفراد الأسرة بوقت للنوم وأخذ قيلولة الظهيرة، إنْ كان لكسب بعض الراحة والخلاص من ساعات الحر القائظة، مع أنَّ الكهرباء لم تكن بحال أفضل مما هي عليها الآن، لكنَّ كانت درجات الحرارة أقل مما هي عليها الآن، او لاستعجال المساء ونزول الشمس، والاعتياد على أخذ القيلولة، التي كان لها طقس معين عند الكثير من الأسر العراقيَّة، حسب كل مدينة وتقاليدها، لكنْ في الأغلب كان شرب الشاي القاسم المشترك مع الكعك أو الخبز المقلي، او الباذنجان والطماطة بالدهن، أو ما توفر من أجبان وما شابه من الفطور الصباحي، وهي وجبة خفيفة تسمى {عصرونيَّة} تمهيداً للعشاء.
ما ان تنتهي العصرونية يتوزع أفراد الأسرة، من لديه عمل لعمله، وان كان الأب موظفا أو متقاعداً فالمقهى القريب مراده، أو أي مكان للقاء الأصدقاء والجيران، الصبيان يتوزعون بين ساحات اللعب القريبة، والشباب يتجولون في أزقة وداربين الحي ، بينما تستعد البنات الى تنظيف سطح المنزل، ورشه بالماء أو غسله وإتمام توزيع الفراش بين مساحته المخصصة لكل فرد، الأم تجالس جاراتها على دكة أي من البيوت، يقضين وقت غروب الشمس بشتى أنواع الأحاديث ان كانت نميمة او فكاهة او توقعات بما سيحدث في الحلقة المقبلة من المسلسل الذي يبث في تلك الفترة، لم تكن الحياة أكثر من ذلك، ما أنْ تميل الشمس الى الغروب تكون البنات قد أتممن مهمتهن، وأخذن بالنزول تباعاً من سطح المنزل بعد تبادل الحديث مع أقرانهن من الجيران، كان بعض الشباب ينتظرون هذا الوقت منهم من يحاول أنْ يفاتح بنت الجيران بحبه، ومنهم من يختلس النظر، وهذه لحظات لم تكن بمطامع كبيرة، إذ كان الحب شيئاً مختلفاً كثيراً، فربما يكتفي كل من الحبيبن، بتبادل النظرات التي تكفيهم العيش لأيامٍ على أمل تبادل أخرى وإنْ كانا محظوظين وتبادل السلام فتلك حكاية أخرى. 
إنْ كان الأب في المنزل فتسير الامور بهدوء خشية من غضبه، وان كان قادما في الطريق فثمة استعدادات لذلك، فحتما سيكون محملاً بالفاكهة، تُغسل وتبرد في الثلاجة، أما الرقي فيقطع ويبرد وقبل الصعود الى السطح ونهاية البث التلفزيوني، تحمل الى السطح.
بعض السطوح كانت تزين بما يعرف بـ(الكله) بلونها الأحمر الداكن، او الوردي ومنها ما كان ابيض، وهذا يدل على أنَّ درجة الحرارة كانت مقبولة وإنْ كانت مرتقعة فمروحة (ديالى اندولا) الأرضية كفيلة بهزيمتها وبث روح الطمأنينة في فضاء (الكله)، بعد الانتهاء من تناول الفاكهة او الرقي يتسلل كل فرد الى فراشه، يعدون النجوم ينظرون حركة هادئة في السماء، التي كان تخترقها أصوات بعض الطيور، رويداً رويداً يسلم الجسد نفسه للسكون عن الحركة وتنزل الجفون مغشياً عليها وتحجب كل شيء عن العيون.
كل ذلك وتفاصيل أخرى كان جزءاً من حياة عراقية يومية، تنعم بها الأسر بنوم السطوح الذي يوصف من كبار السن بأنه نوم العافية والطمأنينة، بعيداً عن الهواء المبتكر المبردة والمروحة، إذ كان ثمة غياب للمكيف)، وان وجد ففي بيوت معدودة في المحلة او الحي.
كان النوم على السطوح طقساً عراقياً خالصاً، كما العروك التي كانت تزاحم كل الأكلات مساءً، والبامية المطهية بأيدي الأمهات، كما رغيف الخبز من تنور في أحد أركان السطح تبقى فيها حبات الباذنجان تشوى بتمهل حتى تحمر، كان النوم على السطوح بهجة ونعمة يفتقدها الناس اليوم في زمن ارتفاع عالٍ لدرجات الحرارة، وتلوث بيئي دون اي معالجات، وازمة خانقة للتيار الكهربائي، وانقطاع دائم للماء، كانت عربة الربل هادئة وصديقة للبيئة، وعربات الدفع الخشبية دون ضجيج، حتى الدرجات النارية لم تكن مشاكسة كما الآن، كان البايسكل وسيلة نقل وطنية في الأحياء والأسواق القريبة، كان الصيف فعلاً أبا للفقراء والمعوزين، وكان النوم على السطوح بهجة للنفوس وهناءة للأجساد.