نبش وتهريب الآثار العراقيَّة.. ارهاب وتخريب مُنظّم

ريبورتاج 2021/08/26
...

  نافع الناجي
حلم الثراء السريع المرتبط بغياب الوعي المجتمعي وتدني المستوى الأخلاقي والفقر وقلة الموارد فضلا عن الفوضى والحروب والأزمات، جعلت الكثير من الأشخاص يندفعون لبيع ضمائرهم مقابل مبالغ طائلة من الأموال، لاسيما لو اقترنت بالتبرير الواهي «قطعة آثار واحدة ستغير حياتي وتثريني»، ولعل الطمع والإغراء المالي الكبير، أعميا بصيرة البعض وسمحا لأصحاب النفوس الدنيئة بخيانة وطنهم وسرقة ونهب مقتنياته النفيسة، وللأسف تحوّل نهب آثار الحضارة العراقية الموغلة بالقدم، الى تجارة دولية رائجة تقف خلفها عصابات منظمة على مستوى دولي.
فقبل بضع سنوات كشفت الاجهزة المختصة في الولايات المتحدة عن ضلوع مالك شركة (هوبي لوبي) بشراء وتوريد مئات القطع الأثرية النفيسة من العراق عبر مهربين لقاء مبالغ مالية كبيرة، لكن في أواخر الشهر الماضي فقط، تمكنت الحكومة من استعادة 17 ألف قطعة أثرية من الجانب الاميركي واعادتها الى بغداد. 
 
بيع آثارنا
قبل عام تقريباً، نشرت جريدة «الدايلي ميل» البريطانية، خبراً عن بيع لوح طيني أثري عمره نحو خمسة آلاف عام ويعود لحضارة وادي الرافدين في العراق، بمبلغ 175 ألف دولار، في مزاد علني أقيم في لندن، ويعود تاريخ اللوح الأثري للألف الثالث قبل الميلاد، ويتضمن تفاصيل عن كيفية تصنيع وإنتاج البيرة ومكوناتها، في معبد إينانا بمدينة الوركاء القديمة (60 كم عن السماوة حاليا).
وهذا اللوح هو جزء صغير من آلاف المقتنيات النفيسة التي سرقها وهرّبها البعض في غفلة من القانون، وقد لا يبدو الخبر غريباً، وذلك لأن آلاف القطع والنفائس الاثارية لوادي الرافدين موجودة في مئات المتاحف في اوروبا واميركا وغيرها، لكن الغريب ان الجهات الحكومية العراقية كانت تتقاعس عن استرداد هذا اللوح او غيره ممن يتم عرضه في صالات المزادات العالمية او حتى مقاضاة تلك الجهات وفقاً للقانون الدولي الذي يجرّم الإتجار بالذخائر والآثار واللقى الحضارية النفيسة للدول ومنها اتفاقية لاهاي الدولية.
لكن الزيارة الاخيرة لدولة رئيس الوزراء شهدت اعادة نحو 17 الف قطعة اثرية عراقية مهربة، بالتعاون مع الولايات المتحدة وتصديق القضاء الأميركي بالرغم من أن مفاوضات طويلة حصلت بين الجانبين واتفاقات تم ابرامها لغاية عودة آثارنا نحو بلاد الرافدين مجدداً.
 
النهب والتخريب المنظم
يزخر العراق بآلاف المواقع الأثرية ولم تنقب سوى 10 % منها فقط، وتعرّض الكثير منها للنبش والتخريب والنهب، لاسيما بعد غزو العراق في 2003، وكذلك بعد غزو قطعان عصابات داعش الإرهابية وسيطرتهم على أجزاء واسعة من البلاد في العام 2014، اذ تفيد وزارة الثقافة وهيئة السياحة والآثار ان اكثر من 4350 موقعاً اثرياً جرى تخريبه أو تم التجاوز على حرمته. 
وقبل هذين التاريخين أتهمت جهات ومنظمات دولية النظام السابق بتخريب متعمد للآثار ونقش اسم الدكتاتور المخلوع على (آجر) قصور بابل الأثرية، كما ثبت ضلوع بعض المقربين منه بعمليات تهريب ونقل للآثار خارج البلاد بقصد بيعها بملايين الدولارات، متجاهلين أهميتها التاريخية والاقتصادية، كما حرص الاميركان على نقل الارشيف اليهودي خارج البلاد بغية ترميمه ولم تتم إعادته لغاية اليوم.
الدكتورة لمياء محمد علي أستاذة التاريخ بكلية التربية في جامعة المثنى، قالت، ان «آثارنا هي عنوان ورمز حضارتنا الشامخة التي نتباهى بها بين الأمم، ونحن محظوظون بهذا الإرث العظيم لهذه الحضارة الضاربة في عمق التاريخ»، وأضافت «للأسف لا يزال الاهتمام بالمواقع الاثارية ضعيفاً جداً ولا يرقى لبلد يمتلك مئات المواقع في طول البلاد وعرضها، وهي بمثابة الكنوز والنفائس التي لا تقدر بثمن ويمكن أن تجلب للبلد ثروات ضخمة لدى استثمار تلك المواقع بشكل سياحي جاذب».
مشددة على ضرورة بذل الجهود لاسترداد الآثار المنهوبة وإعادتها لمتاحفنا الوطنية وتفعيل الاجراءات بحق الجهات التي تمتنع عن إعادتها، فضلاً عن تغليظ العقوبات بحق سرّاق الآثار واللقى والوثائق والمتاجرين بها لأنها تضرّ بسمعة
 بلدنا وتحرمنا من موارد اقتصادية كبيرة.
 
تأثيرات اقتصادية سلبية
الباحث التاريخي عارف شهيد قال: ان «الأزمات المعيشية والمادية دفعت الكثير من الأشخاص إلى ترك أعمالهم التي لا توفر لهم مستلزمات الحياة، والتوّجه إلى العمل في الحفر والتنقيب والبحث عن القطع الأثرية التي توفر ملايين الدولارات في وقت قصير وسريع نسبياً، لتجعل منهم أثرياء أنانيين يفضلون مصالحهم الشخصية على مصلحة أمة بأكملها، متناسين ومتجاهلين أو غير مكترثين لأهمية الآثار في دعم الاقتصاد الوطني سواء بجلب السياحة أو تأجيرها للمتاحف العالمية لتكون مصدراً من مصادر الدخل الوطني المهمة».
واضاف «المنحوتات والتماثيل وألواح الفسيفساء والعملات القديمة التي تعود إلى حضارات سابقة عاشت في بلاد النهرين (ميزوبوتاميا) منذ آلاف السنين، تشكل أهم ما يتم الإتجار به، اذ يتكفل الأفراد بتهريبها ونقلها إلى الدول المجاورة وبيعها بعشرات أو مئات آلاف الدولارات، فلا يمكن تقدير الربح العائد من الأعمال الفنية والأثرية المنهوبة والمهربة بشكل دقيق وموثوق، لكن الخبراء يتفقون على أن قيمتها تبلغ مليارات الدولارات، وهو ما يغري ضعاف النفوس للانغماس بهذه الجريمة».
لافتاً الى أن «خيرة الآثار العراقية المشهورة متواجدة في متاحف عالمية لغاية اليوم، مثل بوابة عشتار الزرقاء في متحف برغامون في برلين، ومسلة حمورابي ومسلة النصر لنرام سين والثيران الآشورية المجنحة في متحف اللوفر بباريس، ونفائس أخرى في المتحف الوطني البريطاني ومتحف بنسلفانيا وغيرها كثير».
 
مواقع للنهب والنبش
أحد ضباط الشرطة الذي طلب عدم الكشف عن هويته لكونه غير مخوّل بالتصريح، كشف لنا ان عمليات التنقيب عن الآثار تتم بمواقع معروفة مسبقاً من خلال البعثات الآثارية التي عملت بها، مثل البعثة الالمانية في محيط أوروك القديمة، وكذلك المواقع و(الإيشانات) والتلول غير المكتشفة بعد من قبل الجهات الرسمية المسؤولة عن هذه الأماكن، لكن في سنوات الحرب الماضية كانت بعض المواقع خارجة عن سيطرة الدولة مثلما حصل في الموصل وغيرها، ما سهل عمليات التنقيب والإتجار غير المشروع والنهب والسرقة للآثار، وكذلك القدرة على نقلها وعرضها وبيعها. 
وأضاف «ولأن الكثير من تلك الكنوز لا تزال مدفونة في جوف الأرض، فقد قام عشرات من الأهالي بالحفر هنا وهناك بحثا عن الذهب والآثار واستعان بعضهم بأجهزة كشف الكترونية حديثة تعمل على الذبذبات والأمواج الصوتية، ومنهم من استطاع إخراج أشياء بسيطة وأخرى ثمينة، بل ان المقابر هي الاخرى لم تسلم من ايدي العابثين، مثلما حصل مع مقابر اخوتنا من الطائفة الصابئية في ابي غريب ظناً من لصوص الآثار ان الصابئة يدفنون مقتنيات الموتى الذهبية مع رفاتهم».
 
أماكن تسويق الآثار
لا يكتفي اللصوص بالعثور على القطع الأثرية الثمينة، بل يجب تسويقها وبيعها ونقلها إلى خارج الحدود العراقية، حيث تباع بعض القطع الأثرية لتجار من الخليج العربي مقابل مبالغ كبيرة تتجاوز المليون دولار أحياناً، والبعض الآخر من القطع يكون سوقها النهائي في أوروبا مرورا باسطنبول او بيروت وعمّان لتباع في السوق السوداء وصالات المزادات العلنية ومحال التحف الفنية القديمة مثل كريستي وسوذبي وغيرهما، فالدول الحدودية مجرد أماكن لعبور هذه القطع الأثرية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه مراراً، لماذا تنتشر ظاهرة تهريب الآثار؟ وكلنا يعلم أن النظام السابق كان يحكم بالإعدام لكل من يهرّب او يحوز او يتاجر او يسرق المقتنيات الاثرية. ولعل أبرز الأسباب لانتشار ظاهرة التهريب تتعلق بالتهاون الحكومي في التعامل مع المهربين، وضعف إدارة الجمارك والمنافذ الحدودية، فضلاً عن التواطؤ والفساد المنتشرين بين العاملين في بعض الجهات الأمنية والرقابية، وعدم الحرص على الإرث التاريخي والاقتصادي والثقافي للبلاد، بالرغم من وجود قانون يجرّم عمليات التهريب بشتى أشكالها، لكن العراق يخسر مئات القطع الأثرية سنوياً، وتقع المسؤولية على عاتق الجهات الأمنية المختصة، لكنها للأسف تقف عاجزة أمام مواجهة عمليات السرقة والتخريب المتنامية بسبب قصورها اللوجستي وعدم تعزيز قدراتها مادياً وبشرياً وتوفير التجهيزات اللازمة مثل المروحيات واجهزة الرصد والاستشعار الحراري بغية تمكينها من حماية حدود البلاد، فضلا عن الداخل المترامي. 
فهل ستكون بادرة استعادة الحكومة لـ (17) قطعة أثرية فأل خير بالسعي الجاد لاستعادة كل آثارنا المنهوبة المنتشرة في كثير من بقاع العالم؟.