أسواق شعبيَّة وتراثيَّة موصليَّة تفتح أبوابها مجدداً

ريبورتاج 2021/09/12
...

   شروق ماهر 
تشكل اسواق الموصل القديمة تحديداً عناصر مميزة لهويتها، فتلك الأسواق بطابعها المعماري الثري وأسمائها القديمة وقيمتها الاقتصادية والتجارية ورمزيتها على مر التاريخ اعطت للموصل المدينة شهرتها واكسبتها تفردا.
فمنذ مئات السنين، كان اختلاف المهن أسلوباً لتقسيم السوق القديمة في الموصل ودافعاً لاكتساب طابع حيوي، وقد انشئت الأسواق حول مسجدي النوري الكبير والحدباء وهما من ابرز معالم الموصل القديمة، كما كانت الأسواق أحد العوامل المؤسسة للهوية التاريخية والثقافية والاجتماعية لأهل الموصل.
لقد دمرت عصابات داعش الاجرامية خلال سيطرتها على مدينة الموصل اغلب الاسواق الموصلية القديمة، وعملت على تدمير آثار وتراث هذه الاسواق الموصلية من اجل محو آثار وتراث هذه المدينة القديمة التي تعرف بطابع اسواقها القديمة كسوق (السرجخانة، والشعارين، وباب السراي، والميدان، والعطارين، وسوق الصفارين، والنجارين، وسوق الذهب، وسوق جامع الكبير، وسوق المنارة ....الخ) إذ إن جميع هذه الاسواق الشعبية والتراثية دمرت خلال العمليات العسكرية على يد عصابات داعش الارهابية وتحولت الى ركام، بينما تمكنت الحكومة الاتحادية والمحلية في نينوى من اعادة اعمار هذه الاسواق، بعيداً عن محو هوية الموصل القديمة، اذ عادت هذه الاسواق مع عودة جميع النازحين الى الموصل القديمة، وعادت آلاف المحال التجارية بعد أن منحت الحكومة الاتحادية مبالغ التعويض لاعادة اعمار المحال المدمرة، وعودة الاسواق الى ما كانت عليه سابقاً.
 
تقديرات
قدرت الحكومة العراقية في شباط 2018 الحاجة الفعلية من المبالغ لإعادة إعمار المناطق التي تعرضت إلى الدمار بسبب المعارك مع داعش، بنحو 88 مليار دولار، ونحو عشر سنوات من العمل، وفق دراسة أجراها خبراء عراقيون ودوليون.
وقال مختار سوق الشعارين الحاج احمد اياد  لـ {الصباح} ان {افتتاح هذه الاسواق القديمة التي تأتي بالخير للجميع يعني اعادة الحركة التجارية رغم بساطتها داخل الموصل القديمة بعد غياب طويل استمر لخمسة اعوام، من خلال افتتاح بعض التجار لمحالهم مجددا بعد ترميمها}، واضاف اياد ان {هناك اقبالا كبيرا من اهالي مدينة الموصل المركز وايسر الموصل بدأ بالاهتمام بالعودة الى منازلهم في الموصل القديمة، وخصوصا بعد استقرارهم داخل السوق الذي يعد رئة تنفس الموصل.
وبين الحاج رمزي عماد لـ {الصباح} ان {عودة الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء إلى الموصل القديمة، مع عودة التجار اليها، تعزى إلى أن غالبيتهم افتتحوا محالّ تجارية في مناطق أخرى، مع افتتاح محال كبيرة لهم داخل قيصريات السوق التراثية التي تدل على تراث واثر الموصل القديمة، وجميعها عادت مجددا وافتتحت مع عودة النازحين الى الموصل القديمة}.
250يوماً
من جانبه اكد محافظ نينوى نجم الجبوري أن {افتتاح الاسواق الموصلية الرئيسة والتي عادت بفضلها الحياة الى الموصل القديمة بعد الدمار الذي طالها من قبل عصابات داعش، اعاد الحركة التجارية مجددا الى المدينة القديمة}. 
واضاف الجبوري {ان الملاكات الهندسية والفنية في بلدية نينوى بدأت باعمار هذه الاسواق التاريخية بعد الدمار الذي الحق بها، الا ان الموصل القديمة تحتضن افتتاح اكثر من عشرة اسواق لتعيدها الى الحياة}.
واكد الجبوري أن {الملاكات الهندسية باشرت بإعادة بناء أكبر الأسواق في الموصل القديمة، وهي: سوق الموصل الجديد، السرجخانة، باب السرتي، سوق الخاتونية وسوق سبهاي وسوق العطارين وسوق الفحامين والنجارين، وسوق البورصة الكبيرة التي تقع هي الاخرى بايمن الموصل، وقد اعادت بناء هذه الاسواق  في مدة انجاز استغرقت نحو (250) يوماً وبعمل متواصل، وفق تصاميم ستأخذ الطابع الجديد والمتطور}.
 
مطارق بلا بنادق
واردف الجبوري {بعد حملة اعمار وبجهود اصحاب المحال وتخصيص مبالغ من قبل الحكومة الاتحادية، تم افتتاح سوق الصفارين والذي يعد احد اسواق الموصل القديمة التراثية، اذ انشئ السوق منذ مئات السنين لكنه اغلق منذ تحرير المدينة قبل أن يعاد تأهيله مجددا ولتسمع فيه مجددا ضربات المطارق التي حلت بدلا عن اصوات البنادق}.
ويشتهر سوق الصفارين بصناعة أواني الطبخ والزخارف المعدنية، ويستخدم حرفيوه معدني النحاس والألمنيوم وترتبط تسميته بمعدن النحاس الذي يسمى محليا (الصِّفر).
 
أقدم الأسواق
عدنان الصفار احد اصحاب المحال في هذا السوق والذي تسلم مهام عمله من والده منذ اربعينيات القرن الماضي قال لـ {الصباح}:  {رغم عودة الحياة للسوق لكن الحركة فيه ما زالت خجولة ولا تعبر عن طموحنا بعودة السوق كما كان عليه بالسابق، وقد يكون اغلب الناس لا يعلمون بفتح السوق وهو احد اسباب قلة رواده}، بينما يتفاءل الشيخ احمد عبد الواحد صاحب اقدم محل في سوق الصفارين المشهور بالموصل القديمة، اذ يقول {ماهي الا ايام معدودة وتأتي الناس متهافتة الى سوق الصفارين، لانه اول سوق افتتح بهذه المدينة القديمة منذ اكثر من 100 عام، ويعد من اقدم الاسواق في الموصل بعد سوق النجارين والفحامين المعروفين بالموصل، ويؤكد بان هناك مطاليب كثيرة من قبل نساء الموصل بافتتاح هذا السوق الذي غيب معالم الموصل القديمة بسبب الدمار الذي الحق به خلال العمليات العسكرية بالمدينة}.
 
وعود
زكريا جمال (50 عاما) ويعمل في هذه المهنة منذ الصغر قال ان {في السوق قرابة 100 محل وما اعيد فتحه يقدر بنصف العدد، واصحاب هذه المحال اعادوا تأهيل محالهم بجهودهم الذاتية من دون الاعتماد على وعود الحكومة المحلية التي اقتصر جهدها على وضع السقائف في السوق}، مضيفا {نطمح أن تعود الحركة لاسواق الموصل القديمة وهذه الحركة لن تعود ما لم يتم تأهيل جسور الموصل الستراتيجية والتي خرجت غالبيتها عن الخدمة، وهو الامر الذي يعيق وصول زبائننا لهذا السوق}.
ويرى معن جاسم (44 عاما) من سكان الموصل أن أسواق الموصل القديمة مؤشر قوي على عودة الحياة إلى المدينة، وان فتح أبوابها وعودتها إلى عهدها السابق دليل على أن الموصل تجاوزت مرحلة الحرب، ويقول إن إعادة افتتاح الأسواق تباعا ستشجع التجار على العودة إلى نشاطهم. 
 
قلب الموصل التجاري
اما سوق العطارين فيعد أحد أقدم الاسواق الموصلية، وأهم المراكز التجارية، جنوبي المدينة القديمة على الضفة الغربية لنهر دجلة ويضم نحو ألف محل تجاري متنوع الاغراض، 40 % منها محال متخصصة ببيع التوابل والبهارات والبخور والمواد المنزلية، اذ يطلق اهالي الموصل اسم (عطار) على صاحب المحل المتخصص ببيع هذه الاشياء، ومن هناك جاءت تسميته بسوق العطارين.
وبلغت نســــــــــــبة الدمار في هذا السوق نحو 80 % واثمرت الجهود بعودة نحو 40 % من اصحاب هذا السوق، وبدأت الحركة التجارية تعود تدريجيا إليه، وبدأ السوق باستقطاب الزبائن الذين تربطهم بهذا السوق ذكريات جميلة، كونهم يعدونه قلب الموصل التجاري.
كما أعيدت الحياة إلى اسواق اخرى مجاورة لسوق العطارين أو هي تعد جزءا منه في خطوة ستسهم في توفير فرص عمل للمزيد من العاطلين وتمكنهم من توفير متطلبات حياتهم اليومية وتضميد جراحهم التي تسببت بها عصابات (داعش) المتطرفة، اذ خسروا بسببها كل شيء.
 
تراث
وعن أهمية السوق، قال الشاب عمر خلدون والذي استأنف عمله ببيع الطعام منذ بدء عمليات إعادة الاعمار، والذي تتوارث اسرته العمل بهذا السوق منذ 700 سنة، {اكسب سوق الشعارين أهمية كبيرة للموصل، فهو مركز الموصل التجاري، وتجار الموصل يتواجدون فيه، ويعد السوق تراثا لأهالي الموصل لذلك يأتون اليه من كل أنحاء المدينة}.
وأوضح أن البلدية قامت بعمليات تبليط الارضية للسوق، واوصلت التيار الكهربائي، والماء الصالح للشرب، فضلا عن تسقيف السوق بالكامل، مبينا أن نحو 40 % من اصحاب المحال عادوا إلى السوق، داعيا أصحاب المحال الباقين إلى إعادة اعمار محالهم والعودة للسوق.
وأشار إلى أن الحياة عادت إلى سوق العطارين وسوق الصفارين وسوق القماش وسوق اللعب، والعمل لا يزال متواصلا لاعادة إعمار جميع الاسواق، مؤكدا أن العمل التجاري والاقتصادي هو الذي سيعيد بناء الموصل من جديد.
وبدوره قال بشار حازم، الذي جاء من الجانب الشرقي للموصل {إن عودة هذا السوق مهمة جدا، فاذا عاد السوق، فهذا يعني عودة الموصل كلها، ويعني عودة الحياة لطبيعتها، كون هذا السوق له تاريخ قديم وهو المركز التجاري المهم للموصل}.
وتتميز الموصل بوجود اسواق متنوعة المهن، اذ يتجمع أصحاب المهن بمكان واحد بكل سوق، وتتخذ هذه الاسواق أسماء المهنة التي اشتهرت بها، مثل سوق الحدادين، وسوق الصرافين، وسوق الملاحين، وسوق الصوافة، وغيرها، اذ ولدت هذه الأسواق بهوية موصلية خالصة، وتتجمع حولها المراكز الحكومية، ومركز تجمع الاسر القديمة، وتمثل مركزا للتنوع الثقافي والديني، فكل كنائس المسيحيين بتعدد طوائفهم تتجمع فيها، وكذلك المراكز الدينية الإسلامية وكل هذه المراكز الدينية لها مصالح اقتصادية تابعة لها، في أسواق المدينة القديمة.