السيناريو الفني في رواية {حصار العنكبوت}

منصة 2021/09/25
...

  د. جبار سلطان حسن 
لقد استندت السينما في بداية ظهورها إلى خبرة الأدب، وكان ذلك أمراً طبيعياً، إذ أجاز لها، أنْ تضمنَ لنفسها كماً هائلاً من الموضوعات والأساليب والتقنيات، فنهلت كثيراً من مفرداتها منه، وهذا ما دفع أحد مؤسسي السينما وهو المنظر والمخرج (كريفث) إلى القول بأنَّ العديد من تجديداته في السينما كان مأخوذا من صفحات ديكنز، ما يفسر تلك العلاقة التبادليَّة الوثيقة بين الرواية بوصفها عملاً أدبياً والسينما منجزاً فنياً، فشرعت في محاكاة كثير من أساليب السرد الروائي، ملتزمة غالباً في صياغة المشاهد بدراية الرواية وبتقنياتها.
 
لغة السينما
والسرد العراقي ليس بدعة في هذا الجانب, فقد عني كثيراً في السنوات الأخيرة بلغة السينما, وأجاد بعض الروائيين العراقيين أيما إجادة, ولكنا لن نتحدث في هذه المقالة عن الرواية العراقيَّة طرا, إنما سنتوقف عند رواية (حصار العنكبوت) للروائي العراقي كريم كطافة, التي برزت فيها وبشكل لافت تقنية السيناريو, وعلى وجه الخصوص الفني منه, مما يميزها كثيراً, فهي رواية متفوقة على مثيلاتها من الروايات العربية الحديثة، في ما يخص التوظـيف التلقائي أو المقصود، لتقنيات السينما عموما، وللسيناريو الفني بشكل خاص، فقد اتسمت المشاهد فيها بحركة سينمائية لافتة لكل قارئ له خبرة بتقنيات كتابة الرواية التقليديَّة والحديثة، مثل السيناريو, وزوايا الكاميرا وحركتها, ولكن مقالتنا ستقتصر على الحديث عن السيناريو الفني, وبنصوص غير كاملة أي بما يناسب حجم مقالة وليس بحثاً.
إحدى شخصيات الرواية (حيدر) كان لقبه (كاميرا) لأنه وكما ذكر الكاتب نفسه «استوطن رأسه ومنذ زمن ســـــــيناريو فلم يجده متكاملاً، لكنه عــــنيد لا يــريد أنْ يعطي نفسـه مرة واحدة، حاله معه يشبه من تورط بحب امرأة راغبة ومتمنعة، تدهمه برغبتها حين لا يكون متهيئاً لها، وتتمنع عليه حين يكون هو الراغب، لذا يحاول أنْ يستدرج فلمه، ويمسك به على الورق».
وكلما تصاعدت الأحداث التي يغوص (حيدر كاميرا) في غــمارها مع رفاقه (الأنصار) شغل قلمه وكاميرته التخيليَّة، لكنه هنا اكتفى في هذا المشهد بخطاب في إطار سيناريو فني، إذ كان الحزن دافعه للكتابة، وهو يقارن نفسه بالشجرة التي يجدها منشطرة الجذع بين الصخرة والتربة فوق الجبل، فيتخيل نفسه منشطراً هو الآخر، شطر يكتب وشطر يمسك بكاميرا متخيلة، أما لماذا بدأ بخطاب، فلأنه سمعه من ممثل يتحرك على شاشة رأسه..
 
منظر محرك
يســـــتأنف (حيدر كاميرا) كتابته للســــيناريو الفني عندما هاله منظر تلك الأعداد، وهي بالمئات من أسر الأنصار، وقد انشــــــغل المقاتلون بتأمين مكان لهم، بعد أن حامت الطائرات الحربيَّة مستطلعة موقع سكناهم، وعلى الرغم من أنها لم ترم حمولتها المميتة بعد، لكنهم كانوا قد خبروا ما تفعله بهم هذه الطائرات قبل الآن، فأخذهم الرعب والصدمة اللذان امتصا ـــ في دقائق ـــ نضارة الجمال من وجوه النساء والأطفال، فحرك هذا المنظر قلم (حيدر) وكاميرته.
لقد تضمن السيناريو تغييرا محسوبا بدقة في حجوم لقطات الكاميرا، فالانتقال من اللقطة العامة إلى المتوسطة، ثم إلى اللقطة الكبيرة من أهم حرفيات التصوير السينمائي، كما أن الحركة البطيئة (Slow mtion) تعطي المشهد بعدا تأمليا وتفاعليا للمتلقي، إذ يتيح له البطء في الصورة وإظهار لقطة كبيرة للعيون المسكونة بالدموع قراءة الحزن والرعب المسيطر على هذه الأسر.
ويتضاعف إحساس (حيدر كاميرا) بتوثيق الأحداث المهولة عبر السيناريو الفني، عندما لا تقتصر حالة الرعب على أسر الأنصار، وتجبرهم على الصعود نحو القمم، بل تندفع جموع بشرية هائلة زحفت من جميع القرى، بعد أنْ سيطرت القوات على معظم المداخل والمخارج من الحدود الإيرانيَّة التركية وإليها، باتجاه القمم، طلباً لنجاة الرجال من الشيوخ والشباب من القتل، والنساء والأطفال من الأسر أو من الإبادة الجماعية بالغازات، لا سيما أنَّ حادثة (حلبجة) حينها لم تمر عليها مدة طويلة، وشواهدها مرتسمة في مخيلتهم.
 
تقنية السيناريو الفني
وأضاف (حيدر كاميرا) إلى نصه فقرات للمؤثرات الصــوتيَّة خارجيَّة (صراخ أطفال يصل من خارج الكادر)، وداخليَّة، وتلك السقطة الخاصة بالبغل المصورة باللقطة البطيئة المفعمة بحركة سينمائية محترفة، وموسيقى كانت بنبرة حزينة لمناسبة الحدث (نحيب عزف على الزرنة)، وكذلك الألوان التي تندرج مستقرة على الأصفر للتعبير عن دلالات رمزيَّة، فابتلاع الدخان الأصفر لوجوه الرجال.
إنَّ تضمين ما هو شعري في النص الروائي لـ (كطافة) لم يكن نافراً، ولا دخيلاً على النص، لا على المستوى الفني ولا على مستوى المعنى المراد توصيله من خلال لغة السينما، التي تمثّلت هنا بقوة بتقنية السيناريو الفني، وكأنَّ الكاتب قد انساق إلى تكثيف أوجاع المحاصرين في الجبل في هذه الأبيات الشعريَّة، لأنه كان جزءاً من هذه الأحداث، فلم يكتف بالتعبير عنها بالسرد فقط.
السيناريو الفني الذي تفردت به رواية (حصار العنكبوت) عوّض النص السردي عن الاستفاضة بالموصوفات البلاغيَّة التقليديَّة، إذ وفر المزج بين تقنية السيناريو وتقنيات الكتابة الروائيَّة نمطاً من الكتابة، كان الأقدر على استحضار تشكيلات للصور البصريَّة في ذهن المتلقي.