من أواخر القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر.. تأثير الطاعون في الفنّ

منصة 2021/11/02
...

 سارديس ميدرانو كابرال
 ترجمة: جمال جمعة
 
أثرت جائحة الطاعون الثانية خلال منتصف القرن الرابع عشر بشكل ملحوظ في الثقافة الأوروبية وفكرة الموت والدين. خلال هذا الوقت، التقطت العديد من التصويرات الفنية لحظات الفاجعة الرهيبة، والسخرية، و(أحيانا) الأمل. تميزت هذه الحقبة غالبا بالموت وبالعديد من تمثلاته المتطورة باستمرار.
من أواخر القرن الرابع عشر وحتى أواخر القرن السادس عشر، كان الفن غير قابل للتنبؤ به، ومتغيرا بفعل التوسعات العرقية والتدخلات العسكرية والتغيرات في الاتجاهات الدينية. بعد اعتناق الإمبراطور قسطنطين للمسيحية، انفتحت كل أوروبا تقريبا عليها وكان لهذا تأثير عميق في الفن استمر أكثر من ألف عام. سعى فنانو القرون الوسطى إلى الواقعية. كانت الكنائس والأديرة مغطاة بالنقوش واللوحات والمنحوتات التي تصور المشاهد التوراتية أو القديسين. في العديد من هذه اللوحات والمنحوتات المبكرة، كان الموت يمثل سراطا بين الحياة على الأرض والاستنارة. بعد الموت الأسود، أضحى الموت مخيفا واعتبر في بعض الأحيان عقابا من الله على الخطيئة.
 
 
انتشر هذا الطاعون الرهيب بلا هوادة من آسيا الوسطى إلى الصين والهند وروسيا، مدمّرًا أوروبا. خلّف الموت الأسود وراءه إحساسًا باليأس والحزن لا يمكن إنكاره. وقد تجلى ذلك في العديد من الأشكال الثقافية والفنية. عكسَ التعبير الفني في ذلك الوقت تجربة الناس الشخصية مع الموت. شرع الطاعون بتقليص سكان أوروبا على جناح السرعة ولم يكن هناك تفسير مقنع لما يحدث.  ولأن الزمن كان آنذاك زمنًا للتدين الشديد والخرافات، فقد بدأ الناس يعتقدون أن الموت بالطاعون كان نتيجة دينونة الله وتمهيدًا للمعاناة الأبدية. وكما فُسِّر من قبل كثيرين، فقد أُحدث هذا الطاعون بسبب خطايا الناس العديدة، مما أجبر الرجال والنساء على التسليم بهشاشة الحياة وتأمّلها عن كثب بصورة أكبر. سعى كثيرون إلى الخلاص الشخصي وسبل الوصول إلى التنوير الروحي. من بين الأمثلة على ذلك جدارية «موكب القديس غريغوري»، حوالي عام 1300. من ضمن الوظائف العديدة لهذه اللوحة، الحثّ على التوبة واحترام دور الطقوس الدينية والكنيسة المقدّسة في شؤون الحماية.
بسبب الموت الأسود والركود تأثرت صناعة البناء أيضًا. لن يكون البناء في أوروبا القرون الوسطى باهظًا كما كان في القرن الذي سبق الموت الأسود. إذا كان للموت الأسود تأثير مباشر بالفعل على ممارسات البناء لأصحاب الأراضي، فقد كان بشكل رئيسي في نطاق الدفاع عن النفس. استخدمت القلاع المتفاخرة في أواخر القرن الرابع عشر بشكل أساسي لكبح جماح النزلاء المشاغبين أكثر مما للحماية من الحرب. تمت تغطية معظم نفقات المباني من قبل ملاّك الأراضي، وتم تمويل إكمال الأديرة والكنائس من قبل اللوردات الذين سيكون لديهم بالنتيجة الحق في ضريح بارز معروض.
عزز الموت الأسود الواقعية في الفن بقوة. أصبح الخوف من الجحيم حقيقيًا بشكل مرعب وبدا الوعد بالجنة بعيدًا. ترك الفقراء والأغنياء شعورًا بالإلحاح لضمان خلاصهم. كان الرجال والنساء من الأثرياء المتعلمين يقرؤون عن يوم القيامة ويفكرون مليًا في ترتيب bona mors «الموت السعيد» أو، إذا لم يكن ذلك ممكنًا، فعلى الأقل إقامة جنازة باذخة وقبر فخم.
السمة الأكثر شيوعًا لقبور العصور الوسطى هي تمثال يضطجع نائمًا بوجه مسالم وفي حالة سكينة. في بعض الحالات، يكون تمثال الموت المضطجع عنيفًا أو قاسيًا كما في حالة تمثال كوندوتيير غيداريلو غيداريلي من عام 1525، للنحات توليو لومباردو، في معرض الأكاديمية في رافينا. في هذه الحالة، كان التمثال لجندي مصاب بجروح قاتلة ويتّسم بالمقاساة. وعلى النقيض من ذلك، تضمّ كنيسة سانت إتيان في بار لو دوك في منطقة لوريين بفرنسا الآن منحوتة قبر تدعى Le Transi أو «قبر الجثة» للنحات ليجييه ريشييه؛ ويحتوي القبر على قلب رينيه دي شالون، أمير أورانج. توفي الأمير الشاب في معركة عام 1544 عن عمر يناهز 25 عامًا. تقول المرويّات أنه، بناءً على طلبه، فإن صورة قبره لم تكن نمطًا معياريًا، بل هيكل عظمي بالحجم الطبيعي مع شرائح من الجلد المتيبس تنسدل فوق جثة مجوفة تضع يدها اليمنى فوق القفص الصدري الفارغ، بينما ترفع اليد اليسرى قلبه عالياً في إيماءة متشامخة. لكن ما هو المغزى الحقيقي لهذا؟ هل هي إيماءة متعجرفٍ أم شخصٍ تائب؟
تتشارك معظم القبور خلال القرن الرابع عشر حتى القرن السادس عشر بنفس السمات العامة، مناقضة لصور الأناقة والمكانة. في أواخر القرن الخامس عشر، يقترب التمثال النائم من الجثة، أي «ترانسي» transi، والذي تعني حرفياً «متيبّس». الترانسي المقابري هو جثة متفسخة تقطنها وتنخرها الديدان، مع مزق من اللحم تتدلى منها. لكنّ تمثال الموت المروع ليست مجرد أداة للقدر، إنه يتواصل مع عالم خفيّ ساعد في القرنين الخامس عشر والسادس عشر على كشف: عالم ينبثق من أعماق الأرض ومن باطن الجثة، تسكنه الديدان والضفادع والثعابين والوحوش البشعة.
خلال القرن الرابع عشر، كان ثمة سيناريو آخر شائع في الصور الدينية وهو مشهد فراش الموت، رجل أو امرأة يحتضران محاطين بنوع من المراسم الاجتماعية. في صور مشاهد الموت بعد الطاعون، يُترك الشخص المريض بمفرده وتخلى الغرفة في حضور الموت، ويُصوَّر بشكل عام على هيئة ملاك أو هيكل عظمي متفسخ. مع نهاية القرن السادس عشر، كانت الصور عبارة عن مزيج من تخيلات الحياة والموت. تم استبدال الجثة المروعة في أوائل القرن الخامس عشر بهيكل عظمي فارغ وجاف أو morte seca «الموت الجاف».
يعكس تعبير Omnia Vanitas الذي يمكن ترجمته إلى «كلّ شيء غرور»، فكرةَ أو مزاج معظم الأوروبيين. الفانتياس* Vanitas، أو النفس، هي الدافع الإيحائي للشهوانية، ومذاق الحياة والطبيعة، وآخر تصوير أيقونيّ للموت الأسود. وكما هو موضح في قصيدة «ثلاثة أحياء وثلاثة موتى»، تنصح ثلاثُ جثث ثلاثةَ ملوك: «ما أنتم عليه، كنا عليه ذات مرة، ما نحن عليه، ستكونون أنتم عليه». يوضع «الفانتياس» عمومًا على النقيض من الموت باعتباره المستقبل؛ يمكن رؤية الموت كهيكل عظمي في صورة منعكسة لامرأة، أو متربّصًا بجانبها. مثال على ذلك، بورتريت بالدونغ غرين لأمّ شابّة مع طفلها غير منتبهين لحضور الموت وهو يلوح خلف فريسته.
أغلب اللوحات في ذلك الوقت تحاول تمثيل انتصار الموت على فرائسه الغافلة، ولكن أيضًا في بعض الحالات يصوّر الخيلاء الجسورة المتحدّية للناس كما في لوحة Belle Rosine «روزين الجميلة»، التي رسمها أنطوان ويرتز عام 1847، الموجودة في متحف ويرتز في بروكسل، حيث تقف روزين عارية بهدوء في مواجهة هيكل عظمي يتدلى من دون ساقين. هذا النمط من الفن مصمَّم للكشف عن الوهم الذي يقبع خلف المظاهر. ثمة نمط آخر شائع للغاية وهو الموت الذي ينتظر فوق فراش الموت في غرفة، أو يتربّص بالمدينة كما في لوحة «الطاعون» لأرنولد بوكلين، وهي مزيج من الواقعية والرمزية الساذجة والألوان الحادة.
أدّت صدمة الموت الأسود إلى ظهور أكثر الوسائل الفنية شعبية في تصوير الموت: رقصة الموت. ثمة دلائل على أن الرقصة المروّعة كانت تؤدَّى أولاً، ثم نُظمت شعرًا، وأخيراً رُسِمت. قبل القرن الخامس عشر، تم تتبّع الرقصة المقابريّة على جدران الكنائس وأقبية الجثث على امتداد أوروبا، حيث تجمّع في قافلتها الأغنياء والفقراء والشباب وكبار السنّ، كما، على سبيل المثال، في اللوحة الجدارية الجصّية في أور ولوار. في أوروبا، كان كل ضحية يرقص بشكل مخبول حدّ الانهيار بغض النظر عما سيحدث: كان الموت المفاجئ يتفاقم إلى لعنة مفاجئة. الرقصة المروعة المؤسسة على خرافات شعبية، والتي تمثلها الهياكل العظمية ذاتها، أو المصحوبة بالأشخاص الأحياء هي الدرس الاجتماعي والروحي الثاني، وهو أن الموت مقترن دائمًا بالحياة. في رقصة الموت، الجثث غالبًا ما تشدّ أو تسحب الأحياء نحو الموت.
أغلب المؤرخين يفسّرون بزوغ أَيقَنَة الموت الراديكالية على أنها تعبير عن الصدمات التي قاسى منها الناس أثناء الطواعين. ومع ذلك، فإن الأيقَنَة يمكن أن تعكس أيضًا الشغف بالحياة، ومدى قوة ارتباط الناس بها، ومرارة فقدانها.
MONTANA
* فانيتاس: تقليد فني ارتبط ارتباطًا وثيقًا بعبارة لاتينية شهيرة هي «ميمنتو موري»، أي: تذكّر أنك ستموت. نشأ فن «الفانيتاس» في القرن السابع عشر في هولندا ثم انتشر في بقية بلدان أوروبا لاحقًا حتى القرن التاسع عشر. اللوحات المعروفة بهذا الاسم تحتشد بأشياء رمزية تهدف إلى التأكيد على أن الحياة عابرة، وعلى عبث المتع الدنيوية، والسعي غير المجدي إلى السلطة والمجد. «فانتياس» في الأصل مفردة لاتينية لها أكثر من معنى ولا مقابل لها في العربية، يذهب معناها إلى افتخار الإنسان بنفسه والتظاهر، دون أن يعود عليه افتخاره أو حبه لنفسه بفائدة في الحياة، والتي هي كما يقال: دار غرور.