جدليّة العلاقة بين الزمان والمكان

ثقافة 2022/01/23
...

 أ.د. مها خير بك ناصر
الزمن في العلوم الرياضيّة والفيزيائيّة هو العنصر المتحول الوحيد الذي لا يرتبط تحوّله بأي متحول آخر، وبه تتم دراسة حركة الأجسام وسرعتها وتسارعها وقوتها وعملها على أنها توابع بالنسبة إليه. 
أما المكان فهو الفضاء الثابت والذي يحتمل التغيير فيضيق أو يتسع أو ينقبض أو ينبسط،  وتكون تحولاته توابع حركيّة الزمن.
 
تناول الكثيرون من الفلاسفة والعلماء قضية الزمان والمكان، وكان كلام الإمام جعفر الصادق “عليه السلام” أكثر تصويرًا لمفهوم المكان، فقال:” إنّ للمكان وجودًا تبعيًّا لا ذاتيًّا، وهو يتراءى لنا بالطول والعرض والارتفاع، ووجوده التبعيّ يختلف باختلاف العمر”، وهذا الكلام يشير إلى أنّ المكان تابعٌ حركة زمن يمنحه وجوده التبعيّ، وهذا الوجود له ثلاثة أبعاد؛ الطول والعرض والارتفاع، أمّا الزمان فهو المتبوع المتحوّل باستمرار وغير الخاضع لأيّ متحوّل، وغير المحدود بثلاثيّة الأبعاد. 
تأسيسًا على ما سبق يمكن القول إنّ للمكان ثلاثة أبعاد، وإنّ للزمن بعدًا واحدًا هو الحركة الأماميّة، ولمّا كان الواحد أسبق على الجمع، فإنّ الزمان سابق وجود المكان، فلا هوية لمكان خارج الزمان، فالمكان تابع حركة الزمان، وهو ثابت وفق ما ذهب إليه أرسطو في مقولته: “ المكان هو الحدّ اللا متحرك المباشر الحاوي”، ولأن قيمة الحاوي ترتبط بالحجم وبنوع مادة الامتلاء، فلقد شبّه الرازي المكان بالوعاء، والوعاء محدّد، وله حجم، وقيمته مرتبطة بقيمة المحتوى وبفاعليته. فرأى فيه ابن رشد “النهاية المحيطة بالحركة”.
 يكتسب المكان، إذًا، قيمته من المحتوى الذي يمنحه الامتلاء، وقيمة المحتوى مرتبطة بطبيعة فعل الحراك الإنسانيّ الذي يُكسب المكان هويّة تتمايز بتمايز الفعل الحركيّ، والحركة لا تكون من دون زمان، فلا هويّة للمكان من دون زمان يكسبه الوجود والحضور؛ لأنّ المكان وفق فلسفة أفلاطون وأرسطو يحتوي الأجسام، ويحيط بحركتها، ويكون شاهدًا على فاعليتها، فلا وجود، إذًا، لفعل الإنسان من دون وجود المكان/ المختبر الذي يحتوي وجودًا محقّقًا بحركة الزمان. فالمكان ثابت لا فاعليّة له من دون حركة زمن، سمته الأساس فعل حركيّ نحو أمام لانهاية له. 
تأسيسًا على ما تقدّم من فرضيات ومعطيات يجوز الاستنتاج أنّ المكان لا هويّة له من دون مسارات زمن يصنعها إنسان يمنح جغرافيا المكان خصوصيتها، فالمكان “ليس الامتداد ولا الممتد، بل هو ما يمتدّ الممتد فيه”، ولذلك ربط العالم الفيزيائيّ من أصل روسيّ “اسحق عظيموف”  قيمة المكان بفاعليّة الضوء، فقال: “المكان لا وجود له، وإنّ الضوء هو الذي يوجد  المكان، وإنّ أشعة الضوء وموجاته هي المكان”.، فالمكان يستمدّ أبعاده من أشعة الضوء وموجاته، والضوء تتسّع فاعليته بقدر ما تشعّ الذوات البشريّة من ذواتها على أماكن شهدت اختباراتها، فتتسع دائرة الضوء المكانيّ باتساع ضوء الحركة في زمن مُقتطع أو ممتد.
إنّ المختبرات/ الأمكنة التي يفعّل تجاربها إنسان عاقلٌ وفاعلٌ هي الأمكنة الأكثر بروزًا وديمومة واستمرارًا وحضورًا في محطات زمنيّة تمارس على ذاتها الثبات والسيرورة، في اللحظة عينها، فالثبات من حيث هوية مكان تابع، والسيرورة من حيث الفعل الإنسانيّ المرتبط بحركة الزمن الممتد إلى ما لانهاية. ولأنّ الإنسان عاجزٌ عن مصارعة الزمن وعن اللحاق به، فهو يسعى دائمًا إلى ستر هذا العجز بسيادته على مكان تابع مثله فعل الزمن. 
المكان، إذًا، هو مختبر أحداث تنتجها لحظات عابرة ومرتبطة بالزمن الكليّ، فجسّد المكان عالم الثوابت، واختصّ الزمان بالحركة والتغيير، والتغيير لا يكون في جوهر الزمان بل في طبيعة المسارات المكانيّة التي غيّر الزمان من صورتها ووظائفها وحضورها، فلا يُقرأ الزمن إلاّ من خلال سيرورة تركت علامات على صفحات أمكنة يشكّل وجودها ضرورة من ضرورات رؤية الحدث وقراءته وكتابته وتأويله.
تُنتج الفرضيات السابق ذكرها  مقولة علميّة تظهر جانبًا من جوانب جدلية  العلاقة بين الزمان و المكان، فالزمان روح الوجود لا يُدرك بذاته بل بأفعاله من خلال أدواته، فأسماء الأمكنة، إذًا، صور تجسّد دلالات فعل الزمان وفاعليته، والأمكنة تتغيّر صورها وفق فعل الزمان فيها، وبها يُستدلّ على قيمة اللحظات العابرة. فلا معرفة بفعل الزمان من دون مكان يجسّد بعض حركته، ولا قيمة لمكان غير خاضع لسلطة زمن يمنحه الحضور المعنويّ، فالزمان، من حيث إدراكه، باطن مستتر يدرك ذاته بذاته ويعرّف بنفسه من خلال فعل حركته، والمكان هو الظاهر الدّال بعلاماته على فعل الزمان فيه وعلى احتوائه أحداثًا يؤرّخ لها في لحظة زمنيّة مقتطعة من الزمن الكليّ، فهل يجوز القول إنّ البشر هم أدوات الزمان، وبهم يُصنع الحدث الذي يحتويه مكانٌ خاضع لفعل الزمان؟؟؟ 
(كاتبة من لبنان)