كيف يفكّر الكاتب في ظل حرياتنا المسلوبة

ريبورتاج 2022/01/23
...

   صفاء ذياب
منذ سقوط النظام السابق، لم يتم الحديث حول جدوى الأدب، وما الذي يمكن أن يقدمه للمجتمع، أكثر من الحديث عن الحرية التي حصل عليها الكاتب العراقي، بعد عقود طويلة من السجون والتقييد الذي خنق الكلمة.
غير أن التحولات السياسية والدينية التي جرت في العراق بعد العام 2003، غيّرت الكثير من المفاهيم حول هذه الحرية، فالكثير من كتابنا اغتيلوا بسبب كلمة، والأكثر صمتوا خوفاً من الاغتيال، والبعض منهم اختفوا في ظل ظروف غامضة.
 
الصحفيون من جانب آخر قدّموا تضحيات كبيرة بسبب مواقفهم الواضحة تجاه السياسة الحالية أو تدخل دول الجوار، فما الذي حصل عليه الكاتب العراقي من هذه الحريات التي لم يكسب غيرها حسب قول المتابعين؟.
 
طرق الحرية
يشير الدكتور عبد الحكيم الكعبي إلى أن هذا السؤال يحمل في ثناياه مفارقة طريفة! فهل هي متاحة لي الآن لقول الحقيقة كما يجب؟.
ويضيف: الحرية هي الحرية، لها معنى واحد، وهو غياب القمع الفكري بمختلف أشكاله؛ والقمع الذي يواجه المثقف والكاتب نوعان: قمع سلطوي، وآخر شعبوي، وعلى حدّ قول (إيتين لابوسيه) "عندما يتحوّل الحاكم إلى طاغية فإنَّ كلَّ الأشرار والحثالة، سيجتمعون حوله ويمدونه بالدعم لينالوا نصيبهم من الغنيمة"، وفي واقعنا نماذج كثيرة على تحريم الفكر وتجريم التفكير ومنع حرية التعبير والرأي ورفض الحوار ومصادرة حق الاختلاف والتنكّر للتعدّدية والتعايش مع الآخر، وتسود هذه المفاهيم تحت لافتات مختلفة، أخطرها تلك التي رفعت باسم الدين.
لقد علمتنا دروس التاريخ وتجارب الأمم أنَّ إشاعة المنهج النقدي الذي يجب أن يطول كلّ شيء، هو الطريق الأمثل لنهوض الشعوب وتجاوز حالة التخلف والانكسارات التي تمر بها، وأمام المثقف اليوم طريقان، أما أن يلتحق بالسلطة، وينمّق لها أفعالها على طريقة "هلال الصابئ" الذي ألّف كتاباً لعضد الدولة البويهي يمجّد فيه آل بويه، وحين سأله أحدهم أحقاً فعلت ذلك؟ أجابه نعم، إنّها "أباطيل ننمّقها وأكاذيب نلفّقها"، أو على طريقة أبي حيان التوحيدي، الذي أطعم- وهو في التسعين- كلّ ما كتبه إلى النيران بعد سبعين عاماً من الاشتباك الفكري والثقافي مع قضايا عصره، وربَّما هناك طريق ثالث سلكه "غاليلو" الذي تجرّع كأس السم على أيدي كهّان القرون الوسطى ومحاكم التفتيش باسم الدين، لكن الأرض ظلت تدور.
 
حدود الحرية
ويرى الدكتور عمار المرواتي أنّه إذا كانت الحرية هدف الإنسان الأعلى ليحيا الحياة اللائقة به بوصفه إنساناً، فهي بالضرورة الفضاء الأوسع والأسمى لآرائه، أنا لا أنظر للحرية من حيث كونها السماح لي باستباحة المحظورات (الدين، الجنس، السياسة) بقدر نظري لها من حيث إنَّها الحدود العقلانية التي تمنعني من التجاوز على معتقدات الآخرين، حريتي المنضبطة بضوابط إنسانيتي، والمدفوعة بثقافتي القائمة على تجاوز الحدود في التمرّد على الشكل الكتابي، إنَّ أخطر الرقباء، وأكثرهم قمعاً، هو الرقيب الذي يقبع في داخلي، الرقيب الذي لا يكتفي بمنعي بقوّة محمولات راسخات رسوخ اللون في بشرتي فحسب، بل يلوّح لي بهول الإحساس بالغربة التي سأعاني منها في رحلة الانفصال عن أسرة الشكل المطمئن، إنَّ الحرية التي لا يكون ثمنها انتصارك عليك حرية ناقصة، هذه الحرية لا تبلغها بسهولة وبساطة، وذلك لاستحالة منحك إيّاها من خارجك، إنَّ القيود التي تكبّلك وتمنعك من التلذّذ بها، تسكنك أي أنَّها ترافقك في عزلتك، وكلّ القيود التي تمنع الحرية العامة لا قيمة لها عندما تكون وحدك. وتستطيع التحرّر من تلك القيود، أي أنَّ الرقيب الخارجي سيكون محايداً.
 
فكرة الحرية
وبحسب الدكتور دريد الشاروط، فإنَّ الإبداع يتناسب طرديّاً مع مساحة الحرية المحيطة به، فكلّما اتسع فضاؤها تخطّى الإبداع حدود الحذر، وكلّما ضاق أفق التعبير ولد الإبداع مشوّهاً غير مكتمل الملامح، ومن ثمَّ نرى أنَّ أهم عنصر يمكن أن يوفّر الحرية للمبدع هو نقاء البيئة من فكرة الخطوط الحمر التي تفرضها السلطة السياسية أو الدينية أو الاجتماعية، فمتى تلاشت تلك الخطوط في ظلِّ وعي يتقبّل النقد والتصحيح ويتفهّم مسألة حرية المبدع في التعبير، تلاشى مفهوم القيود الذي يضيق الخناق ويكبت الحريات.
مبيناً أنَّ المبدع رسول فكرته الحرّة التي يتبنّى موقفها ويعمل على إيصال صوتها إلى عالمه المفتوح، وعلى المتلقي أن يرتقي بوعيه ليفهم تلك الرسالة ويحترم مبادئها المنبثقة عن وعي مميّزٍ عنه بالموهبة، فإذا ما غلبت مفاهيم التسلّط والتجهيل والتقديس المصطنع على الواقع الذي يعيشه المبدع، فإنَّ مصير موهبته ينتهي إلى التحجيم أو الخضوع لسلطة الواقع أو الاختباء وراء رموز قد لا تكشف عن مغزى رسالته وبالنتيجة يظلّ الإبداع الحقيقي يعيش في عزلة ولا يتنفس حريته التي يستحقها.
 
شروط الحرية
وأوضح الشاعر والناقد عبد الأمير خليل مراد أنَّ الحرية شرط الإبداع، فبدونها ليس هناك إبداع حقيقي ولن تستقيم أمام المبدع أدواته وتصوراته عن الواقع المعيش، فالأديب شخصية قلقة ونافرة وتحيا على الرفض، ولم تستطع الأنظمة الديكتاتورية مهما جبلت على القوة تدجينه واستلاب إرادته، ولكي يبدع الكاتب ينبغي أن توفّر له المؤسسة الرسمية الحرية المطلوبة في الكتابة ونقد الآخر.
وسبق أن قال شاعرنا الجواهري في إحدى قصائده:
لثورة الفكر تاريخ يحدّثنا
بأنَّ ألف مسيح دونها صلبا
وهكذا فإنَّ طلب الحرية موقف شخصي يحتاج إلى تضحيات مشهودة، وكم لاحظنا أنَّ الأدب والثقافة ينتعشان في ظلال الحرية، بينما نرى في الجانب الآخر أدباء اختفوا تحت لافتات القسوة والتدجين واستلاب حرية التعبير، ففي الثمانينيات من القرن الماضي قامت الدولة بتدجين الأديب وتعبئة الوضع الثقافي باتجاه تقديس الحرب وإشاعة أكذوبة البطل السوبرمان، ذلك البطل الذي يقاوم الموت والزوال، إنّه البطل الذي لا يموت مهما واجه من مخاطر بين سرفات الدبابات أو الأرض الحرام، اذ قامت الدولة بدعم هذه التوجهات وإشاعتها في دهاليز المعارك، ومن ثمَّ ظهرت سلسلة روايات قادسية صدام، وهي سلسلة تعبوية تمجّد البطولة البهلوانية، وتمجّد الموت، بيد أنّ هذه السلسلة لم تنتج أدباً إبداعياً، بل كان معظم إصداراتها روايات هابطة لم تتوفر على شروط الإبداع الحقيقي.
ويرى مراد أننا اليوم نحتاج إلى حرية أكثر حضوراً من خلال رقابة الضمير ذاتياً، فالأديب هو ضمير الإنسانية وصوتها الدائب الذي يكتب عن همومها وأوجاعها، لذا ينبغي أن تتاح له الحرية الكافية في التعبير عن هذه المضامين الإنسانية وألا نضع أمام إبداعه أيّة شروط أو مثبّطات أو محاولة تدجينه بطريقة أو بأخرى وجعل الله ضميراً حيّاً معبّراً عن هموم المرء وعذاباته وألا نضع مقصّاً على نتاجه وإبداعه.
 
هامش الحرية
ويؤكد الشاعر محمد فرج المعالي أنّه بدون حرية لا ينتج الأديب شيئاً من الجمال، إذ يقف إزاء القبح والظلم ويفضح كلَّ طاغية ومستبد، وتعرّض الأديب على مرّ التاريخ، للتنكيل والقتل وقذف به في غياهم السجون، والأمثلة على القمع كثيرة ومستمرّة إلى يومنا هذا، من زمن أرسطو مروراً بنجيب محفوظ إلى مقتل الروائي العراقي علاء مشذوب، والتهم الموجهة للأديب معروفة ومتشابهة، وعلى ثلاثة محاور: الدين، السياسة، الأخلاق، والأدب لا ينتقص من الدين، ولكن هناك جهات تحاول زجَّ الكاتب في ساحة الانحراف والكفر، كما حدث مع محفوظ واستهدفت روايته الشهيرة (أولاد حارتنا) إذ استشعر كرسي السياسة أن الرواية تستهدف سلوكيات السلطة الناصرية والانحراف في مبادئ ثورة يوليو، وغضّ النظر عن أهداف الرواية الحقيقية وتجاهل التحفة الأدبية وما تحمله هذه الملحمة الإنسانية من تصوير الحياة آنذاك وحجم الظلم والاجحاف، وقذف بها في ساحة المتشدّدين ومن ثمَّ تأويل الرواية على أنَّها تستهدف الذات الإلهية والأنبياء، وكما يعرف الجميع أنها بعيدة عن ذلك، وبسبب القاء التهم والفتاوى بتكفير الكاتب، تعرّض للطعن على يد أحد المتشدّدين وكاد أن يقتل وأما أن يتهم الكاتب بنشر الفاحشة كما يصفون بعض الكتابات الإنسانية التي يحاول فيها الأديب تصوير نمط حياة مختلف أو وصف حالة جنسية ما، وما شابه ذلك من كتابات، الأدب منبر إنساني وعدسة تصوّر المسكوت عنه وتحتاج إلى هامش من الحرية.