أرهقني هذا العمود، فمع أنَّ صاحب المناسبة فيه، يتربعُ على ثراءٍ باذخٍ من الفضائل والمناقب، إلا أنَّ الحيرة حاصرتني من كلّ جانب، فلا أدري ماذا أكتب، وماذا أختار من كتب رجعت إليها، أحدها موسوعة معاصرة عنه بعشرة أجزاء!
كدت أنْ أعزف عن الكتابة، وصرت قريباً من الاستسلام لعجزي وتردّدي وحيرتي، حين عدت إلى موسوعيّ آخر أستأذنه أنْ أستعير أسطراً من مقدمة موسوعته؛ تلك الموسوعة التي تركها لنا قبل ثمانية قرون، لكنها لا تزال تواصل حضورها على نحو متوهّجٍ مميزٍ،
لا سيما المقدمة.
أسجّل تبعاً له: ما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، واجتهدوا بكلّ حيلة في إطفاء نوره، فكان كالمسك كُلما سُتر انتشر عَرفه، وكلما كُتم
تضوّع نشره!
ما أقول في رجل تُعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كلّ فرقة، وتتجاذبه كلّ طائفة، فهو رئيس الفضائل
وينبوعها.
من كلامه اُقتبس العلم الالهي، وعنه نُقل، وإليه انتهي،
ومنه ابتدأ.
أما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه وعدوّه أنه سيد المجاهدين؛ وهل الجهاد لأحد الناس إلا له! وفي الزهد فهو سيد الزهاد، وإليه
تُشدّ الرحال.
وفي العبادة كان أعبد الناس، ومنه تعلم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام الليل. وأما الفصاحة فهو إمام الفصحى، وسيد البلغاء، وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق، وفوق كلام
المخلوقين.
في الرأي والتدبير كان من أسدّ الناس رأياً، وأصحهم تدبيراً؛ وفي السياسة فإنه كان شديد السياسة، خشناً في ذات الله، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه، ولا راقب أخاه عقيلاً في كلام
جَبههُ به.
ما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة، وتعظمه الفلاسفة، وتصوّر ملوك الفرنج صورته في بيعها وبيوت عباداتها، وتصوّر ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها!
له مع شرف الأبوة بسيّد مكة الشيخ أبو طالب، أنَّ ابن عمه محمد سيد الأولين والآخرين، وزوجته سيدة نساء العالمين، وابنيه سيدا شباب أهل الجنة، اختلط بلحم النبي ودمه، لم يفارقه منذ خلق الله آدم؛ فهذا الأول وهذا التالي، وهذا المنذر
وهذا الهادي!
عذراً لعلامة بغداد المدائني العظيم (ت: 655 ه) ونقلة أخيرة إلى أبي إسحاق إبراهيم النظام، الذي لبث يفكر طويلاً، وطوى نفسه على تأمل عميق مترامي الأطراف في أبعاد هذه الشخصية، قبل أنْ يقول: (عليّ بن أبي طالب محنة على المتكلّم؛ إن وفّاهُ حقّه غلا، وإن بخسه حقه أساء).
سلام على عليّ في ذكرى مولده!