في مفهوم المواطنة

آراء 2022/05/24
...

  عطية مسوح*
اقتصرت الحقوق السياسيّة والاقتصاديَّة والاجتماعية في الإمبراطوريات القديمة على من يسمون (الأحرار أو الأسياد) تمييزاً لهم عن العبيد المحرومين من الحقوق. أي إن المواطنين كانوا الأسياد فقط. لكن مفهوم المواطنة تطور مع تطور الأنظمة الاقتصادية والسياسية، وجوهر هذا التطور التوسع في دائرة من ينالون حقوق المواطن أو بعضها.
أما في العصر الحديث فجوهر تطور المواطنة هو الانتقال من مفهوم الرعية إلى مفهوم الشعب, ومن الحاكم بتفويض إلهي, أو بقوة السلاح والمال, إلى حاكم فوّضه الشعب بالانتخاب الحر ووفق شروط ديمقراطية.
تحقق هذا الانتقال عبر نضال طويل وخطوات تراكمية واكبت تطور العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في أوربا حيث نشأ النظام الرأسمالي ونما وترسّخ, ثم امتدّ إلى القارات الأخرى عن طريق الاستعمار أو تنامي الإنتاج البضاعيّ في بعض المجتمعات.
وجاء الانتقال المذكور تلبية للحاجة إلى الخلاص من جمود العلاقات الإقطاعيّة, وكان انتقالاً نسبياًّ وتدرّجيّاً, فتفاوت عمقاً واتساعاً من مجتمع إلى آخر, وهناك مجتمعات – ومنها العربية – ما تزال تعيش تحت هيمنة العلاقات التقليدية بعيداً عن قيم المواطنة.
غير أنّ الانتقال من مفهوم (الرعية) إلى مفهوم (الشعب) لا يعني بالضرورة تحقق المواطنة, فتوفر الجوهر لا يكفي لتوفر كل عناصر الحالة المطلوبة, إذ طالما انتهكت حقوق المواطن تحت شعار مصلحة الشعب. 
لذلك نؤكد أنّ المواطنة الفعلية تعني الانتقال أيضاً من مفهوم (المرعيّ) إلى مفهوم (المواطن). 
وكلمة (مواطنة) في لغتنا هي على وزن (مُفاعلة), وهذا الوزن يعني المشاركة وتبادل الفعل وردّ الفعل. فكلمة (محادثة) مثلاً تدلّ على حديث يتبادله شخصان أو أكثر, بينما تدلّ كلمتا (حديث -  تحدُّث) على الكلام من طرف واحد بينما ينصت الطرف الآخر ويكون سلبياً. فالمفاعلة نشاط تبادليّ لا يوضع فيه طرف خارج التأثير, وبالتالي فإنّ المواطنة حالة تفاعلية لا يكون فيها أحد خارج دائرة التأثير ولا يستأثر طرف بموقع الفاعل اعتماداً على قوة مالية أو عسكرية.
وكلمة مواطن تحيل بشكل واضح إلى الفرد. فالمواطنة تنطلق أساساً من الفرد وحقوقه بعد أن سحقته وسحقتها العلاقات التقليديّة والمنظومات الفكريّة التي تُخضع الفرد للجماعة بذرائع وأشكال مختلفة.
لا يجوز للفكر العربي الحديث أن يستصغر هذه المسألة, فما يقوم به المجتمع بتقاليده وثقافته الأبوية من قمع للفرد وحدّ من حرّيته هو في كثير من الأحيان أشدّ وطأة ممّا تقوم به الحكومات.
إنّ المجتمع في بلداننا يتدخّل في شؤون الفرد تدخّلاً فظّاً, وكثيراً ما يمتنع الفرد عن القيام بعمل يقتنع به ويتعلّق بحرّيّته وحياته الشخصيّة ولا يسيء لأحد, خوفاً من نقد المجتمع. لهذا يمكن أن نقول إنّ المجتمعات التي تنتشر فيها ثقافة عدم الاعتراف بحرّيّة الفرد وحقوقه هي أقوى سندٍ للحكومات التي لا تعترف بمبادئ المواطنة وتُضيّق هوامش حرّيّة الفرد, وبالتالي حرّيّة الجماعات غير الموالية. وإذا كان تضييق الحكومات حرية الفرد يتجه نحو الحرية السياسية والتعبير عن الرأي السياسي المخالف لرأي الحكومة فإنّ تضييق المجتمع يتجه نحو حريّة الفرد في حياته الاجتماعية وعلاقاته الإنسانيّة ومواقفه أو قناعاته الفكريّة, وتحدّ حتى من اجتهاداته إن كان لديه اجتهاد ما في مسألة دينية أو مذهبية إذا انزاحت كثيراً أو قليلاً عن المفاهيم الموروثة والمألوفة. 
تتضمّن المواطنة جانبين متكاملين:
الأول: الاشتراك في الوطن. فالوطن بكلّ ما فيه من خيرات وجَمال وثقافة هو لأبنائه كلّهم, يحقّ لهم التمتع به والإفادة منه وفق القوانين والنظم المرعيّة.
الثاني: التساوي في الحقوق. ولا يعني التساوي في الحقوق المساواة المطلقة, فثمّة مستويان للتساوي وفق أسس المواطنة ومنطقها.
المستوى الأول: هو التساوي المطلق, أو الذي ينبغي أن يكون مطلقاً. وهو التساوي في الحقوق الأساسية, أو ما أصبح يعرف بالحقوق الطبيعيّة, أي حقّ العيش والأمان على الحياة, والتعبير عن الرأي, والمشاركة في الحياة السياسيّة وفق قوانين ديمقراطيّة, والحقّ في اختيار العمل المناسب وفق المؤهلات المهنية والعلمية, وحق التعلّم, وممارسة الهوايات, والحبّ, والتمتع بالطبيعة, والتجوّل, وتكوين الأسرة.. على ألاّ يصل الفرد في ممارسة هذه الحقوق إلى درجة إيذاء الآخرين أو الإساءة إلى المجتمع ومصالحه.
والمستوى الثاني: هو التساوي النسبيّ, وهو الذي ينطوي على التفاوت, غير أنّ  التفاوت فيه لا ينقض التساوي ولا يُنقِص شيئاً ممّا ذكر في المستوى الأول. فالتفاوت المقصود يتصل بالحقوق المضافة لا بالحقوق الأساسيّة. 
والحقوق المضافة  هي الحقوق الخاصة التي يكتسبها الشخص بفعل موقعه الإداريّ أو الوظيفيّ الذي ينبغي أن يصل إليه عن طريق الفرص المتساوية, أي عن طريق الانتخاب أو التعيين القانونيّ الشرعيّ. فللمدير حقّ لا يتمتّع به العاملون في المؤسّسة, وكذلك للوزير أو الشرطيّ أو المحافظ أو الرئيس.
وهكذا تقوم المواطنة على التساوي بوصفه فرصة, وعلى التفاوت بوصفه قدرة وموقعاً ومهمّة توكل إلى الشخص, بشرط أن يكون الوصول إلى الموقع عن طريق الكفاءة عبر تساوي الفرص. ولا يتوفر تساوي الفرص إلّا في ظلّ الديمقراطيّة الحقيقية, وهو ما سنتناوله في مقالة لاحقة.
 
*باحث وكاتب من سورية