هل نغيِّر نظام الامتحان أم الإنسان

ريبورتاج 2022/06/22
...

   علي غني 
ربما تتفوق سريَّة الأسئلة الوزاريَّة على أسرار عدة في الدولة العراقيَّة، فغالبا ما توصف الأسئلة بأنها أمن الدولة وشرفها، فكل شيء يغتفر الا الأسئلة فهي شهادة الدولة وعنوان رقيها عند الدول الأخرى، فهي على مستوى المدرسة تمثل شرف المدرس وعنوان هيبته، فكيف اذا كانت على مستوى الدولة؟، أثار تسرب اسئلة الرياضيات لمادة الثالث المتوسط ردود أفعال عديدة، دفعتنا لمعرفة وضع الأسئلة وسريتها، والمراحل التي تمر بها حتى تصل إلى الطالب، ومن المسؤول عن أمنها وحفظها، ومن يضعها ويشرف عليها، وما المقترحات الجديدة لضمان عدم تسربها مرة أخرى، فماذا يقول أصحاب المهنة الذين قضوا أعمارهم خدمة للتربية في أقسى سنوات العمر. 
 
صدمة نفسيَّة
 كشف تسرب أسئلة مادة الرياضيات للصف الثالث المتوسط، ثغرات عديدة في نظام الامتحانات في العراق (ربة ضارة نافعة)، ما دفع العديد من أصحاب الاختصاص، لا سيما في الشؤون التربوية للبحث بنحو جاد لتغيير نظام الامتحانات، (ولنا وقفة مستقلة في ذلك)، لكن الألم، الذي تركه تسرب الأسئلة ليس بالسهولة نسيانه، فهذه (ام  الطالب عبد الله في الصف الثالث المتوسط)، بكت لأن ولدها تعرض إلى صدمة كبيرة عند سماعه تسريب الأسئلة، ولم يتقبل الموقف، لأنه أكبر من عمره، فولد له الخبر ردة فعل معاكسة، وقرر أن يترك الدراسة (وهو المراهق ابن الخامسة عشرة سنة، وأنا الآن (والكلام لوالدة عبد الله) أحاول إقناعه، فحسبي الله على وزارة التربية، أين كانت عندما تسربت الأسئلة ليلا، وأي مصير ينتظر الطلبة، وهم يؤدون الامتحانات بدرجة حرارة (50) مئوية.
ولم يكن الطالب جاسم عدنان في الثالث المتوسط أقل تشاؤما وهو يقول: إن حماسي للامتحانات الوزارية قد تلاشى، ونحن سنعيش تحت تهديد التسريب وأساتذتنا من المصححين الذين نخشى انتقامهم، ونتخوف من صعوبة الأسئلة المقبلة، ونعيش كوابيس الرسوب او الإعادة، فنحن نطالب الوزارة بايجاد الحلول الحقيقية، لأن أغلبنا تعرض إلى صدمة نفسية تضاف إلى الخوف من الامتحانات الوزارية.
 
وضع الأسئلة
وحتى يعرف أولياء أمور الطلبة والناس جميعا، كيف تضع الوزارة الأسئلة  والطرق التي تمر بها كشف لنا الاستاذ علي اسماعيل زاير مدير الاعداد والتدريب في الكرخ الثانية (كان يشغل مدير الامتحانات فيها سابقا)، أن "هناك مسارات ثلاثة تمر بها عملية صياغة الأسئلة وطباعتها وتوزيعها بين الطلبة، تبدأ الرحلة الأولى من اللجنة الدائمة العليا للامتحانات، وتضم كبار الشخصيات التربوية وأعرف منهم (الكثير)، وهم أحرص الناس على الحفاظ على سرية الامتحانات ونزاهتها، ثم اللجان الامتحانيَّة الفرعيَّة في المديريات المختلفة، ويترأس كل لجنة المدير العام ويكون مدير الامتحانات مقررها وبحسب تواصلي لفترة طويلة مع أغلب هؤلاء فهم على استعداد للموت، دون الأمانة والحفاظ عليها، بعدها إدارات المراكز، وهم الحلقة الأوسع، وهؤلاء محاطين بقوانين تحميهم من الشكوك وتحافظ عليهم، فلا يقومون بفتح المغلف إلا بشهادة وتوقيع بعض المراقبين والطلبة والمشرف المتابع.
 
ثمانية نماذج
وبين الدكتور محمد البهادلي الذي يملك خبرة كبيرة بالامتحانات، أن الوزارة تضع (٨ نماذج) من الأسئلة تتم طباعة نموذج واحد للمدارس داخل العراق، ونموذج آخر للمدارس خارج العراق، بعدها تتم طباعة وسحب الأسئلة ولجميع المراكز الامتحانية في بغداد والمحافظات من قبل اللجنة الدائمة للامتحانات، وتغلف وتستلم قبل يومين من بداية الامتحانات من قبل المديرين العامين للتربية في بغداد والمحافظات، بصحبة مديري أقسام الامتحانات واحد أعضاء اللجان الفرعية وتوضع (بقاصات محصنة) ، (وبغرف حصينة) بأقسام الامتحانات بمديرياتهم، ولا تفتح الا بحضور المدير العام ومدير الامتحانات وعضو اللجنة الفرعية، حيث يمتلك كل عضو من الثلاث نسخة مفتاح خاصة به، اذ إن عملية طباعة الأسئلة تستغرق ٢٠ يوما وبعمل شاق وتصرف كميات هائلة من الورق، إذ يضع من يطبع الأسئلة إشارة وخطأ مطبعي مقصود لكل مديرية، حتى يعرف ويحدد مكان التسرب لحظة حدوثه.
وأضاف: ما حدث من تسرب للأسئلة شخصته سريعا اللجنة الدائمة، وحددت مكان التسرب والقسم الذي تسرب منه والمحافظة، وأنا غير مخول بالبوح عنها (ظهر في ما بعد تربية الرصافة الثانية)، وبعد أن اكتشفنا بأن جميع الأسئلة القادمة مسربة؟ ما الحل؟ إيقاف الامتحانات؟، واللجوء إلى طباعة النموذج الاخر والذي يستغرق 20 يوما.
 
منع التسرب
وأعود للاستاذ علي  إسماعيل زاير، لأسأله ما الحل؟، هناك عدة اقتراحات وهي قد تكون حلول ناجعة في المستقبل، منها تختار اللجنة الدائمة في بداية العام الدراسي أكثر من (٥٠ مدرسا)، متمرسا على انفراد، ولكل مادة لوضع مجموعة أسئلة منوعة من جميع مفردات المادة مع الحلول (بنك اسئلة)، بعدها تختار  لجنة خماسية من المدرسين، الذين لديهم كفاية علمية قبل يوم واحد من موعد الامتحان وتفتيشهم تفتيشا دقيقا، وبعد أدائهم  قسم الحفاظ على الامانة عندئذ يتم تكليفهم باختيار ثلاثة نماذج من الأسئلة من (بنك الأسئلة)، ويتم وضعهم تحت الإقامة الجبرية لحين أداء الامتحان في اليوم التالي، ثم تقوم بعد ذلك برفع الأسئلة الكترونيا إلى جميع المراكز الامتحانية قبل الوقت المحدد للامتحان بنصف ساعة، ويقوم مدير المركز والمشرف المتابع باستلام الأسئلة وسحبها بعدد الطلبة وتوزيعها، هذه العملية لا نحتاج سوى بضعة آلاف من الحاسبات وأجهزة الطباعة وأجهزة تزويد الانترنت، ولا يكلف ذلك الميزانية الكثير قياسا إلى الفوائد الكبرى التي نجنيها.
 
الانقطاع عن الناس
وأجاب التربوي المخضرم الاستاذ ناجي يوسف عن سؤالنا من يضع الأسئلة عن كل مادة؟، فأجيبك: لجنة مكونة من أربعة أو خمسة أو ستة اشخاص، هم يضعون أسئلة المادة مثلا الرياضيات أو العربي، هؤلاء الخمسة او الأربعة المسؤولون عن وضع اسئلة لتلك المادة (يحجزون او يغيبون يحاصرون)، بشكل أو آخر ينقطعون عن الناس (واحد ألا يعرف الاخر)، الا ساعة وضع الأسئلة، تطبع وتوزع الأسئلة قبل فترة جدا قصيرة من يوم الامتحان إلى اقسام الامتحانات في المديريات عندهم خزانة مختومة الأسئلة، مثلا تأتي في الليل وتوزع في الصباح، لذلك أعتقد أن أي تسرب يحصل فهو من الرأس بحكم علاقات، بحكم واحد من واضعي الأسئلة، وألا هي بعيدة عن معلم او مدرس او موظف صغير، حتى اذا أراد أن يوزعها، فربما يوزعها قبل نصف ساعة وفي هذه الحالة لا تؤدي غرضها.
الاستاذ محمد فخري المولى ناشد الوزارة لمعالجة الصدمة النفسية لطلبة الثالث المتوسط أن تقر الإعادة بجميع الدروس لطلبة الصف الثالث في الدور الثاني، وربما تحسن من موقفها أكثر لو تعود حتى السماح لهم بأداء الدور الثالث، استثناء لهذا العام الدراسي 2021 - 2022.
وأضاف أن امتصاص الصدمة النفسية يتطلب اشاعة الثقة بالمؤسسة التربوية، التي نحن جزء منها، ولأنها صمام الأمان لتخريج الأجيال التي تبني البلاد، إلى جانب تطمين الطلبة.
صراع المناصب
بعيدا عن الروايات الرسمية التي ذكرت من تسريب الأسئلة، فإن بعض تسريبات الشائعة في المجتمع تعكس صرعات خفية على المناصب، وأنه لا يجب عكسها على الامتحانات الوزارية ووضع الأسئلة وطريقة ايصالها بنحو سلس، وبمهنية عالية تمنعها من التسرب وتثقيف المجتمع  بأهمية الاجتهاد والوصول إلى الاهداف والطموح الحقيقي، الذي يسعى له الإنسان، كما قال المشرف الإداري الأستاذ فيصل مدلول، وحتى نضمن سرية الأسئلة علينا أن نعدَّ صاحب الامانة إعدادا  يمكن الوثوق به، فأي تربوي يجب أن يكون موثوقا به، وأنا أقول كل شيء الآن صامت حتى الحجر في وزارة التربية، كيف سيمرر هذا الامر؟، ومن يعيد للطلبة المساكين، اذا رسبوا في أغلب الدروس فرحتهم بالنجاح، على الوزارة أن تجد الحل المناسب لاقناع الطلبة وأسرهم، لأن الخاسر الحقيقي هو (قلب المفاعل التعليمي العراقي) وروحه الطلبة، الذين سيتمكنون من إعادة الحياة للقلب، وأناشدك يا وزارة التربية (والكلام لطالب في الثالث المتوسط)، أن تتعلمي الدرس من طالبة سمعت بالتأجيل وبكت، وطالب قرر أن يترك الدراسة، بسبب الصدمة، ومدرس دعا طلابه إلى مقاطعة الامتحانات، وطلاب أدّوا الامتحانات في درجة (50) مئوية.
 
تشكيل لجنة
نحن نقترح على الوزارة بعد حادثة تسريب اسئلة مادة الرياضيات للصف الثالث المتوسط، أن تشكل لجنة من اساتذة العلوم النفسية لتقييم الضرر الناتج عن الحادثة، واتخاذ القرارات التربوية الحقيقية لمعالجتها وبمهنية، بعيدا عن المعالجات الضيقة، لأن الامور تخص مستقبل الدراسة لملايين الطلبة في العراق، وقد تكون إحدى المعالجات هو مراعاة الطلبة في اعادة جميع الدروس، التي يرسب بها الطالب في الدور الثاني، وكذلك اعادة النظر بنظام الامتحانات في ضوء التطورات، التي تحدث في العالم، ولنا وقفة خاصة في هذا الموضوع الذي يشغل الأسر العراقيَّة منذ سنين طوال.