أوزار الحروب.. بين غبار البارود وأنين الشعوب

ريبورتاج 2022/06/26
...

   قصي الطيب
بعد أن تضع الحرب أوزارها، ينقشع الضباب وتشرق الشمس، حينها نعد قتلانا ونرمم ما هدم، ونحصي خسائرنا ونثب نحو العمران وترميم الأرواح والمباني والجسور والبنى التحتية، ثم نبيع النفط، ونجمع الأموال، فندخل حرباً أخرى، وهكذا دأب العراقيين منذ سنين طويلة، حتى جزع الصغير قبل الكبير، وتكدست الأحلام على رفوف الهواجس المضطربة، وهاجر الكثيرون وهجّر آخرون، وما بين هؤلاء واولئك، يصطف العراقيون اليوم، بأنساق ليست لها نهاية، أمام ما بقي من حلم، مرابطين حالمين ببلد لطالما شيّدوه بمخيلاتهم، وهم ينفضون عنه غبار البارود، ويمسدون براحاتهم الخشنة رأس الأمل.
 
وإن أحصينا حروب هذا البلد منذ فجر السلالات، لطال المقام، لكننا نبدأ بنبذة مختصرة للاستفادة منها في هذا التحقيق. فبعد حرب عام 1980 - 1988،  الحرب العراقية – الإيرانية، تعرض العراق لخسائر اقتصادية قدرت بـ (452) مليار دينار، بما يعادل (10) أضعاف معدل الناتج المحلي الإجمالي أثناء فترة الحرب (1980 – 1988). إذاً فليس من المبالغة القول، إن العراق بدأ فترة ما بعد الحرب باقتصاد مدمّر وشعب يئن فقراً.
 
حروب وإرهاصات
ثم تلتها حرب الخليج عام 1991  ففي نهاية الحرب العراقية - الإيرانية، ظهر العراق متبختراً منتصراً، لكنهُ مثقل بالديون الضخمة، كان العراق يُموّل إلى حد كبير المجهود الحربي من خلال القروض، ويدين بنحو 37 مليار دولار، لدائنين خليجيين في عام 1990. 
وكانت النتيجة قرار الأمم المتحدة رقم 678، الذي أجاز استخدام القوة لإجبار العراق على الانسحاب من الكويت، بعد انقضاء المهلة المحددة للانسحاب، هاجم التحالف بقيادة الولايات المتحدة العراق جواً. وفي غضون أربع وعشرين ساعة، سيطرت قوات التحالف على الأجواء وقصفت مواقع ستراتيجية مثل مرافق القيادة والسيطرة العراقية، ومحطات الطاقة، والمرافق الاستخباراتية والأمنية، والمحطات الكهرومائية  ومصافي النفط، والجيش، والمجمعات الصناعية ومنشآت الصواريخ العراقية. ثم الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وما رافقه من ويلات وإرهاب ومآسٍ يدفع ثمنها العراقيون حتى هذه اللحظة، كما تشير كل إحصائيات اليونيسيف، إلى أن "حروب العالم قتلت أكثر من مليون طفل ويتّمت مثلهم، وأصابت 4.5 مليون بالإعاقة، وشردت نحو 12 مليوناً، وعرَّضت 10 ملايين للاكتئاب والصدمات النفسية، الجزء الأكبر من هذه الأرقام يقع في بلدان العرب والمسلمين، وأغلبهم أطفال فلسطين والعراق وسوريا واليمن".
 
تركة ثقيلة ومرضى نفسيون
وفي كل مرة، تتراكم المشكلات والتبعات، حتى غدت جبالاً، لنرى حصيلة مأساوية، قصة شعب يخوض غمار الحروب جائعاً، ويتلظى ألماً، ويرتع يتاماه على صفائح الأزبال طلباً للعيش.
قدّر البنك الدولي، وجود أكثر من مليار شخص حول العالم ممن عاشوا في مناطق متأثرة بالنزاعات المسلحة والحروب، ومن جانب آخر قدّرت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، أنّ "هناك ما يُقارب 60 مليون مدني قد نزحوا ورُحّلوا قسراً من ديارهم إلى مناطق أُخرى بسبب الحرب التي جعلت حياتهم مُعرضة للخطر".  وعُدَّ هذا الرقم أكبر عدد لاجئين سُجّل منذ الحرب العالمية الثانية، وأثارت هذه الأرقام الضخمة اهتماماً واسعاً، وذلك لوضع سياسات للتعامل مع الاضطرابات النفسية التي قد تظهر على المدنيين نتيجة للحرب، إذ أثبتت العديد من الدراسات والأبحاث أنّ "الأشخاص المدنيين الذين عاشوا الحرب، أو نزحوا من بلادهم هم أكثر عُرضة للإصابة بحالات الاكتئاب والصدمات النفسية، والضيق النفسي الشديد من غيرهم من الأشخاص الذين لم ينزحوا من بلادهم، أو يعيشوا ظروف الحروب القاسية".
 
فقر وهجرة
يُقسِّم مواطنون التقيناهم، الشعب العراقي إلى ثلاث فئات، الأولى (الأثرياء)، وهؤلاء حافظوا ولو بنسبة معينة على منع تشتت أسرهم بفعل الحروب، وما تلقيه من بواعث نفسية مدمرة، والثانية الطبقة الوسطى (الموظفون)، الأقل تضرراً فما يتقاضونه من راتب شهري ثابت ومستقر من قبل الدولة، كفيل بأن يؤمّن لهم ما يحتاجونه لسد رمق أسرهم ولو على نحو النسبية، أما الفئة الثالثة (محدودو الدخل)، وهؤلاء يشكّلون ثُلث سكان الشعب العراقي، وهم الأكثر تضرراً، فلا مال يقيهم مرارة العوز، وتجد أكثرهم مرضى يعانون شظف العيش والفاقة في زمن لا يعترف إلا بسطوة المال.
يقول زهير الساعدي مختص نفسي، إنه "على نحو الإجماع، الحروب مرآة واقع مرير، تلقي انعكاساتها على المجتمعات والبلدان والشعوب، فتحيلها الى أكوام مآسٍ مبعثرة، فلا منتصر فيها، غير الأفكار المستطيرة الشريرة، وتدفع أثمانها الشعوب أعواماً عديدة، مرضاً ومجاعة واكتئاباً ودماراً هائلاً، مضيفاً "ولنا مثال في بلدنا، فكم عانى ويعاني جراء الحروب التي خاضها مخيراً وأخرى مرغماً، ولا أكتمك سراً، أن الملايين من شعبنا يعانون أمراضاً نفسية خطيرة جداً، تحتاج إلى عمل مؤسساتي مضنٍ وسنوات طويلة ليتعافوا منها".
ويشاطره أحمد محمد طالب جامعي، القول "أفكر كثيراً بالهجرة، لكن لا يسعني ترك والدي خصوصاً، وأسرتي كذلك، وأبي من أصحاب الدخل المحدود، وينتظر لحظة تخرجي من الجامعة بفارغ الصبر، حتى أعينه على متطلبات الأسرة، لكني أشعر بالخيبة، فماذا بعد التخرج؟، سوى أني سأكون رقماً مضافاً لجيش الخريجين العاطلين".
 
مشكلات تنظيمية وإدارية
أما الحاج محمد السوداني، فإنه يحمّل القائمين على الحكومة منذ عام 2003 إلى هذا اليوم، نتيجة الإخفاق والتردي والفقر الذي يزداد يوماً بعد آخر، ويقول "لو إن المؤسسات الحكومية، منذ عشرين عاماً، انتشلت فقراء هذا البلد من خلال احتساب راتب شهري وتقاعدي لكل فرد، لما وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم"، مؤكداً "ما جدوى العمل لساعات طويلة في السوق أو في أي من مجالات العمل، ولا يمكننا سد نفقة إيجار البيت الذي نسكنه، بلدنا فيه الغني جداً والموظف والفقير والمُعدم، ولا أحد يفكر بالأخير، لا حكومة ولا مؤسسات خيرية رغم كل ما عاناه من ويلات وآهات".
بينما يرى المحامي زيدون الموسوي، أن "مشكلة البلاد هي تنظيمية إدارية، فضلاً عن كونها واقعاً مأساوياً، على سبيل المثال، مشكلة الكهرباء، بإمكان وزارة الكهرباء أن تمنع المتجاوزين على شبكات المحولات المعروفة بالـ (الجطل)، ما يخفف الأحمال، والوصول إلى تيار مستقر، وكذلك الماء وشبكات الصرف الصحي، والنظافة والمرور وغيرها الكثير، تكمن في ضعف التنظيم والإدارة، فما لقيه العراقيون من ويلات، أنتجت ثقافة هشة، ما يستدعي دراستها والحيلولة دون الوقوع في الكثير من الأزمات في المستقبل المنظور".
 
لا بدَّ من حلول
وطالب مواطنون كثيرون، باعتماد البطاقة النفطية حلاً جذرياً، وتوزيع العائدات النفطية بين الأفراد، كون أغلب مشكلات الناس هي مالية، أو من خلال تفعيل الجباية والضريبة كما هو معمول به في دول المنطقة، عبر إنشاء صندوق سيادي، وتوزيع ما به من عائدات بين الطبقات المحرومة شهرياً، كما شددوا على المطالبة بجباية الضريبة من أصحاب العقارات والبيوت، وتحديد سعر بدل الإيجار بما يتلاءم ودخل الفرد، مع مراعاة فرض نظام التسعيرة على الأسواق والعقارات، بما يضمن سلامة الاقتصاد، وتزامناً مع الغلاء المعيشي الصادم، الذي بات يؤرق ملايين المواطنين الباحثين عما يسد رمقهم وأطفالهم ويؤمن لهم الحياة الكريمة من دون خوف وقلق.