ضحى عبدالرؤوف المل
كتب الروائي غيربرند باكر ( Gerbrand Bakker) بشكلٍ واقعيٍ وباعتدالٍ نفسيٍ تحليليٍ واعٍ جداً من حيث دراسة شخصيَّة التوأم في روايته الصادرة عن شركة المطبوعات للنشر التي حبكها بمنطق التفاعلات الأسريَّة ومعاناة الأسرة ككل عندما تضطرب العلاقات مع أحد الأفراد، فيفشل البعض في الوقوف عند حدود الحالة السلوكيَّة الناتجة نفسياً عن حدث أدى الى كسر التوازن، وفقدان الشعور بالأمن الداخلي، وبالتالي يقلُّ التقدير الذاتي. ما يؤدي الى اضطرابات سلوكيَّة تعيق التفاعلات الأسريَّة المتمسك بها غيربرند باكر لبناء الروابط الأسريَّة القويَّة، والقائمة على إصلاح الخلل النفسي الذي لا يمكن رؤيته عائلياً. لكنه قائمٌ بين أفراد الأسرة الواحدة وبين من هو مجبرٌ على استكمال مسيرة الحياة في أسرة تتخبط مثل شخصيَّة «هينك» العم الذي يعاني من تخبطٍ أسري. لكنَّه مع ذلك يستمرُّ بعد موت الأخ التوأم، وبشكلٍ واقعي ينقلنا عبر الأمكنة بجمال الحقيقة التي نعيشها ضمن التفاصيل التي يمنحها روح الطبيعة الإنسانيَّة حتى عبر محادثاتها الذاتيَّة، وبمنطقٍ تطوري يجيب من خلاله على كل ما يتبادر الى ذهن القارئ.
فهل يكتب غيربرند باكر باعتدالٍ عاطفي وعقلاني يميلُ الى التعايش والتصديق مع شخصيات يمنحها حريَّة نفسيَّة بحيث يظهر ذلك بشكلٍ واعٍ في كل رواياته الصادرة حتى الآن؟ أم هو يميلُ الى إظهار الحالات الإنسانيَّة التي يصعب فهمها على الإنسان العادي؟ وهل فهمُ العالم من حولنا يحتاجُ الى ربط كل حدثٍ بسلوكيات الشخوص حوله؟
مزيجٌ من واقعٍ حقيقيٍ ذي مصداقيَّة ممتعة مجازياً، بما يليق بأسلوبٍ راصدٍ لمواقفه من الحياة بمفارقاتها السلبيَّة والإيجابيَّة على الأشخاص داخل الأسرة، والذين في غالبهم يميلون الى التفرد. كبطل رواية التوأم الذي يواجه واقعه مع توأمه المتوفى بما «يكفي من الشجاعة للمغامرة الكبرى، فسنواجهها كرجلٍ واحدٍ بصمتٍ ومن دون خوف» فالأجواء النفسيَّة عارمة حيث الأب المتسلط في فترة من حياته على ابن دون الآخر بينما يصابُ بمرضٍ عضالٍ في ما بعد، فيقوم بطل الرواية برعايته وهو يعاني من قساوته وطغيانه. ورغم ذلك يستكمل طريقه في سبيل الأسرة، وهو الذي يعاني من الآلام النفسيَّة ما يكفي ليكون مريضاً نفسياً. فيقول «أنسى أحيانا أنه عرفني وأنا ولد شقي. وأنسى أحيانا أيضاً أنه جاء للعمل لدى والدي وهو نفسه صبي» فالشيء الوحيد الذي يشعر به القارئ هو السكون في مزرعة هي حياة مكتملة بتفاصيلها اليوميَّة من اعتناء بالحيوانات، وبقوامها الطبيعي مع تغيرات الفصول ما بين ربيع دافئ وشتاء قارص. فالاحساس بالحياة يغمر المعاني. بل استكمال الحياة رغم الكثير من المنغصات التي تسبب بها الأب المتسلط والأم التي تمنح عاطفة أكبر للولد المنبوذ من أبيه محافظاً بذلك «غيربرند باكر» على تقلبات المشاعر التي يشعر بها هو أولاً. أي بطل الرواية ومن ثم الأم التي أصيبت بفقدان ابنها. وبقاء الآخر الذي يقسو عليه والده دون أي سبب منطقي.
فهل يتقمص الأبناء الآباء بعد معاناة قاسية مع أحد أفرادها كالأب أو الأم؟ وهل يستنطق باكر القارئ من خلال تنوع أبطاله؟
صراع الآباء مع الأبناء والألم النفسي الذي يصاحب ذلك الإحساس بالحاجة الى الدفاع المستميت عن الأسرة واستمرارها. رغم القلق بعيداً عن الأحكام التي تثير عدة وجهات نظر. فهو لم يحاكم الأب في روايته. بل أظهر قوة التأثر والتأثير بالأب والأم والأخوة مع تكاثر أفراد الأسرة لتمتد الى أولاد الأخ بوصفه العم الفاقد لتوأمه. فاتحاً المساحة الروائيَّة لاحتواء مشاعر الذنب التي يشعر بها الولد نحو أحد أفراد أسرته، وفي الوقت ذاته الوقوع في تمثيل دور الأب بعفويَّة معززاً ذلك بالمنعطفات المجازيَّة. لتصبح مواقف الأب ناجمة عن غموضٍ نفسي.
فهل يمكن فهم الظواهر النفسيَّة المعقدة التي يتعرض لها الأطفال في أسرهم؟ وهل كافح باكر ليعيد بناء وتكوين الأسرة بشكل سليم من خلال روايته هذه المشحونة بواقعٍ متخيلٍ ذي مشاهد تنبض بالجمال لطبيعة حياة في مزرعة هي الأسرة بأبعادها النفسيَّة والواقعيَّة التي رصدها رصداً دقيقاً؟ فهل تنتقل الجينات الوراثيَّة عبر بيولوجيات لا يمكن فهمها نفسياً من الأب الى أحد الأبناء دون سواه؟ أم أنَّ كل سلوك يمكن تقويمه عبر التجارب والمعرفة وفهم الذات؟