الحجابات وذاكرة الحرب

ثقافة 2019/04/05
...

علي حسن الفوّاز
للحرب مذاقٌ ساخن دائما، لكنها أيضا بيتٌ سحري للحكايات، فضاءٌ غرائبي لأسرار تبدو قدريّة أحيانا، لكنها غامرةٌ بالمفارقة والاثارة، حدَّ أنّ يومياتها تتحول الى ذاكرةٍ وحدها، من الصعب تغييبها حتى وإنْ طوت الحربُ صفحاتها..
أقسى ما في الحرب أنْ تكون في حجاباتها، فالحجاب مكانٌ فنطازي، لايعدو أن يكون شقا في الأرض، أو ملجأً، لكنّه يعني حياةً بكاملها، ففيه السرير والمطبخ والمكتبة والحكاية، ورغم قربه الحميم من الموت، لكن التعوّد عليه يجعل من ذلك القرب وكأنّه جزءٌ من لعبة سرديّة فائقة الغرابة مابين الموت والحياة..
الوصولُ الى الحجاب يشبه الخروج عنه، فكلُّ شيءٍ يحوطه يُثير الخوف، حقول الالغام، القناصون، الخوف ذاته يتحول الى احساس شبحي، وأحسب أن تلك اللحظة الفاصلة مابين الوصول والخروج هي الزمن الفائق الذي يمكن تفسير الحرب من خلاله، إذ يتحول هذا الزمن الى (سحريّة واقعيّة) كثيرا ما جعلني أسخر من واقعيات ماركيز، فحربنا لاتشبه حربه، وعصاب السياسة تحوّل في تلك الحرب الى جنون، حدَّ أن كثيرا من الجنود يجدون في اجازة الخروج من الحجاب فرصة للهروب من ذلك السحر ومن الحرب بكاملها..
من غرائبيّة الحجابات هو التحوّل الذي يُصيب بعض الشخصيات، فرغم أنْ الموت هو الاحساس المشترك بين جنود الحجاب إلّا أنّ بعض الضباط يتوهم أنّه في معسكر، ويسعى الى فرض هذا الوهم على الآخرين الذين كثيرا ما يتمرّدون عليه، واحيانا يرفضون تنفيذ بعض الاوامر الساذجة، ليجد نفسه منكسرا ليشاطرنا لعبة الوجود القاسية بما فيها التمرّد على المكان ذاته، رغم أن بعضا اخر يجد في فضاء الحجاب احساسا داخليا بـ (العقوبة) والعزل، أو الدعوة الفاضحة للموت، ليجد نفسه قد تحوّل الى كائن آخر، ليس خائفا، وليس شجاعا، بل مسكون بمايشبه الانسحاق، فلا يجد تفسيرا لأي شيء سوى أن يجعل الحجاب وكأنه غرفة الرغبة، فيلوّنها بصور فاضحة للممثلات، وبعض القصائد المكتوبة عن الوجع، مثلما يجعلها مطبخه الشخصي، الذي لن تنطفئ فيه (جولة) الشاي، فالشاي هو الشيء الذي نتشاطر إدمانه، وكأنّه الترياق المضاد للوحدة والاحساس بالموت والخوف..
 
الحجاب والآخر
في الطرف الآخر من الحجاب ثمّة حجاب آخر لـ (العدو) كما تقول الادبيات العسكرية، واظن أنّ إحساس جنود الحجاب الآخر لايختلف عن احساسنا، ولا حتى عن اوهامهم الفندقيّة، ولا عن خوفهم من الموت، ومن طرق الالغام ومن رهافة القناصين، وأحيانا نتفق معا- دون تخطيط او اتفاق- بالصمت على خلق نوع من التفاهم الغرائبي بيننا، فيخمد الرصاص، وتبدأ الرؤوس تخرج الى أفق الضوء، لتحسين مستوى التنفّس، واحيانا لنشر ملابسنا الداخلية التي كثيرا ماتتيبّس من عطالة الماء، أو من الاحساس بعبثيّة أنْ يغسل الجندي جلده وملابسه الداخلية..
الآخر قد يكون (العدو) وقد يكون جندي البريد الذي يأتي احيانا بطريقة اكثر غرابة، وفي ليالٍ يغيب فيها القمر تماما، إذ يسرنا بالاوامر والاخبار السعيدة والتعيسة، وقد يكون كذلك جندي الارزاق والماء والذي يعني لنا سانحة للضوء الذي نحتاجه لمواصلة لعبة البقاء احياء في ملاجئ الحجابات، فالطريق الى الحجاب هو خيار اضطراري للموت، لأن (العدو) لايبعد سوى امتار عن الشق الارضي الذي نتوهّمه ملجأً او بيتا او حتى ملاذا آمنا، وأنّ لعبة الحرب معه يحكمها الجنون، والوهم، والاوامر التي تروّج للكراهية..
لكن ثمة آخرَ أكثر شغفا يشاطرنا ليل الحجاب الموحش، هو المرأة التي تخرج من صورتها المُعلّقة بعبثية وشبق على الحائط الافتراضي، لتصطنع معنا صخبا نهتز له، ومع تصاعد بخار الشاي ودخان السكائر يتحول الملجأ الى بيت للذة، إذ تتحول الاصوات الى نداء، والحائط الى أنثى، والبخار الى شبح يدغدغنا بشبقه، وحتى الجندي المناوب المُكلّف بالحراسة يفقد سيطرته على الوقت لينسى الموت والعدو لحظتها، وليتوهم أنّ الحياة والرغبة هي أكبر من الحرب ومن جنونها وخوفها..
 
الحجاب والجندي والسياسي
اختيار جنود الملجأ وحتى الضابط المسؤول أو العريف أو نائبه يتم وفق توصيفات معينة، فكلهم غير حزبيين، ولهم مواقف من (الحزب والثورة) وأن اختيارهم لهذا المكان يتم بقصدية، لكي يكونوا أهدافا سهلة لـ (العدو)، فلا نجد في الحجابات من اصحاب الواسطات، أو من اصحاب الولاءات الكبرى، وكثيرا مايكون طقس الكراهية فرصة، ولو حذرة لنقاشات وحوارات دسمة، ومثيرة، وفيها ما يشي بالكراهية، ورفض لعبة الحرب التي تحولت الى لعبة في القسوة والتوحّش.
الجندي المتهم بـ (الشيوعية) أو بنزعته الاسلامية، أو بكونه من عائلة لها تاريخ معادٍ للحكومة والحزب هو بطل هذا الحجابات، وحتى الضابط المتحول أو غيره والذي يدير مسؤولية هذا الحجاب كثيرا ما يفقد سلطته الرسمية والادارية ليجد نفسه في فضاء الموت والحياة، ولا خيار له سوى أن يشاطر الجميع حكايات السياسي الذي فقد ظله، ويضطر معنا لقراءة الكتب التي كنّا نهرّبها بعيدا عن (التوجيه السياسي) والتي لاتخلو في اسمائها وعناوينها من شفرات تشي بكراهيتها للحرب وللاستبداد والطغيان..
سنوات طويلة والحرب لاتنتهي، والمعارك الدامية كانت تبدأ من الحجابات، واحيانا تعبرها لنجد أنفسنا ونحن خارج الحرب، وأن الحياة في الملجأ هي كوميديا سوداء، فلا جندي البريد يصلنا، ولا جندي الارزاق والماء يطأ تلك الارض النائية، فنعيش معا حكاية حي بن يقظان، أو روبسن كروسو لنتعرّف على الارض حولنا وقد عبرتها الحرب، ورغم الخشية من الالغام لكن للحياة الغامها العميقة التي يجب أن تجتازها، فنصنع من الحشائش انواعا غرائبية من الاطعمة، نطبخ كل شيء لنصنع منه مرقا، ومن أكثرها غرابة مرقة الخيار، ومرقة الرشاد البري ومرقة لحشائش لا اعرفها..
الذاكرة وحدها كانت تختزن أمكنة الحجابات، ورغم أني لم أعش نوستاليجيتها، لكنها ظلت تعيش معي، وتذكرني دائما بوحشية الحروب، وبقسوة الطغاة حين يجعلون من تلك الحروب طريقا للخراب، وللوهم ولحجابات أخرى قد تكون داخل المدن أو داخل البيوت، وأحيانا  في نفوس الناس التائهة..