الحارة.. خرائب محلَّة لا تزال تختزن التراث

منصة 2023/01/24
...

 بغداد: بشير خزعل 

 تصوير: نهاد العزاوي

محلة الحارة أصلها بتخفيف الراء تعني المحلة، لأنها بُنيت بعد الخراب والطاعون اللذين حلا بمنطقة الأعظميَّة سنة 1831. ثم تحول اسمها مع مرور الزمن ليلفظ بشكل (حــارة)، وهي ليست حارّة بأجوائها كما يتوهم البعض، وإنَّما سميت الحارة لكونها محلة صغيرة بالقياس الى بقيَّة محلات بغداد، تحيط وتحاذي مرقد ومسجد الإمام أبي حنيفة النعمان، وتضيف بمكانتها الموقعيَّة والدينيَّة مرقد المتصوف بشر الحافي ومسجده الجامع.

حمام الحارة

بعد الحرب العالميَّة الثانية عام

(1939 – 1945) كان الجسر القديم ما بين منطقتي الأعظميَّة والكاظميَّة طائفاً على النهر، وكان يربط بين الضفتين طوافات متلاصقة ومربوطة بحبالٍ متينة بمبنى أثري من بقايا قصر قديم تسمى(المسانيَّة)، وهو لفظ يطلقه البغداديون على الطوافات (الدوب) ومفردها (دوبة) المصنوعة من معدن الحديد وحجمها يتحدد حسب الحاجة لنقل الناس والبضائع.

بعد انتهاء الحرب العالميَّة الثانية، رفع هذا الجسر العائم، ليتم بناء جسرٍ قوي من قبل شركة بريطانيَّة، وبُني الجسر الحديث عام 1957. وهو شبيهٌ لجسر الأحرار من حيث التصميم، إذ كان يعدُّ واحداً من أجمل جسور بغداد الأربعة في ذلك الوقت وهو يشبه إلى حدٍ كبيرٍ من حيث التصميم جسر باترسي في لندن، المنطقة التي اختيرت لبناء الجسر كان جزءٌ منها من محلة الحارة، حيث كان يوجد بها حمامٌ تراثيٌّ يعرف باسمها وهو من حمامات بغداد العامَّة قديمة العهد ويقع في الجانب الشرقي من منطقة الأعظميَّة، ويرجع بناء هذا الحمام إلى عهد السلطان سليمان القانوني عند مجيئه إلى بغداد بعد طرده الفرس عام (941ه‍/ 1534م). حيث بنى حماماً في محلة الإمام أبي حنيفة حين لم يكن فيها حمامٌ حتى ذلك التاريخ. وقد جدد وأصلح هذا الحمام عدة مرات كان آخرها عام (1280ه‍ /1863م). ويقع هذا الحمام في محلة الحارة قرب مسجد بشر الحنفي. وقد تقادم عهده وأصابه الخلل والإهمال حتى أنه أصبح لا يصلح للغسل أو السباحة.

وفي بداية القرن العشرين زاد الخلل سوءاً، إذ تصدع وأهمل، وصار الدباغون يستعملونه في خزن الجلود أو يستخدمونه في بعض أعمال الدباغة. وفي سنة (1910) جدده الوالي ناظم باشا، وقد أزيل هذا الحمام بسبب بناء جسر الأئمة وأقيم في مكانه المتنزه الموجود حالياً بجانب الجسر.


معالم غائبة

بعد إنشاء جسر الأئمة الذي يربط الأعظميَّة بالكاظميَّة، جرى استملاك بعض البيوت القديمة في الحارة التي تحيط بجامع الإمام أبي حنيفة إلى أنْ تمَّ تهديم الكثير منها في نهاية الستينيات، فصارت تحيط من حوله الساحات أو حدائق الجسر ولم يبق متصلاً إلا بمقبرة الأعظميَّة، مقابل محلة الحارة والجامع، وفي الجهة الأخرى من الشارع كانت هناك شركة الصباغ لنقل الركاب لصاحبها (أحمد جميل فرج) تنقل الناس من الأعظميَّة إلى شارع الرشيد وبعد شركة الصباغ يأتي مقهى (عباس حسن كافر) وهو مقهى واجهته مؤطرة بالزجاج ثم تحول إلى صيفي ولم يبق له أثر، فقد أقيمت مكانه بناية جمعيَّة منتدى الإمام، وفي الجهة اليمنى منه حلويات (فرج نعوش) ومقهى شهاب (توشة) الذي كان من روادها الشخصيَّة الظريفة (جاسم محمد هتلر المعظماوي) وقصصه وفعالياته المحبوبة، أحبه أهل الأعظميَّة وغيرها وله أثر في ذاكرة المجتمع البغدادي.


شارع سعدة

بعد دخول باصات الخشب الصغيرة الى بغداد في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت ملكيتها تعودُ الى شركات أهليَّة وأشخاصٍ محدودين، فكانت تلك السيارات تقلُّ الركابَ في طريقٍ يربط السفينة بمرقد الإمام الأعظم ويمرّ على البيوت القديمة التي تتلألأ بالشناشيل الجميلة والدرابين، آخر محطة لتوقف تلك الباصات كانت عند موقع بسطة السيدة سعدة وهي امرأة بسيطة أخذت شهرتها من الخبز الفاخر الذي كانت تخبزه في تنور بيتها وتتسابق الأسر على شرائه كل يوم، فسمي الشارع باسمها كدلالة، إذ كان شارع سعدة يخترق مقبرة الخيزران خلف جامع الإمام أبي حنيفة النعمان ولا يتجاوز طوله 400 متر ثم يقسم المقبرة الى قسمين ويستمر محاذياً الى الجانب الذي دفن فيه أحد علماء المتصوفة وهو الشيخ أبو بكر الشبلي والعالم أمجد الزهاوي والشيخ مكي الواعظ والشيخ قاسم القيسي، والعالم الديني عبد العزيز الخياط، والأستاذ ساطع الحصري، والشاعر الكبير معروف الرصافي والشاعر وليد الأعظمي وغيرهم.

أما في الجانب الأيسر من المقبرة فتوجد شواهد قبور لشخصياتٍ كثيرة اندرست قبورهم عبر تقادم الزمن ومنها ما زال شاخصاً كقبر رائد المقام العراقي المغني يوسف عمر.


شخصيات

محلة الحارة هي جزءٌ من منطقة الأعظميَّة التي تعدُّ من المدن الدينيَّة، ففيها مرقد الإمام أبي حنيفة، ومرقد الشيخ أبي بكر الشبلي الصوفي الكبير، ومرقد الشيخ أبي الحسين النوري، وتحتضن مدرسة الإمام أبي حنيفة التي تأسست سنة (459)هـ، يقصدها الزوار وطلاب العلم أو العمل، وكان الأمر مألوفاً أنْ تجد بعض طلاب العلم من الدول الإسلاميَّة يجاورون مرقد الإمام أبي حنيفة النعمان في محلة الحارة للدراسة والتعلم وقد مرَّت أقوامٌ مختلفة من تلك الدول، منهم من قام بالزيارة وانصرف ومنهم من مكث فيها للتعلم والتعليم أو طلب الرزق، فطاب له المقام فيها، ولم تتوفر إحصاءات دقيقة عن عدد الأجانب الذين مكثوا في هذه المحلة منذ بداية القرن الماضي وحتى نهاية الثمانينيات، وقد دونت أسماء متعددة ظلت عالقة في أذهان الناس، كالشيخ علي الطنطاوي السوري الذي زار العراق سنة 1936، والدكتور محمد تقي الدين الهلالي المغربي الذي قدم الى العراق عام 1947 ودرس في كليَّة الملكة عالية ثم غادر العراق بعد ثورة 1958 وتوفي في المغرب سنة 1987. والشيخ مولود حسين التركي، وجميع هؤلاء درسوا الأدب وعلوم تفسير القرآن في جامع أبي حنيفة النعمان.


أهل المحلة القدامى

في محلة الحارة وباقي مناطق الأعظميَّة، مارس أهلها بعض المهن التي ارتبطت بأسمائهم لسنواتٍ طويلة، وآخرون مارسوا حِرفاً صارت من الماركات المعروفة حتى خارج البلاد، ففضلاً عن الأطباء والصيادلة وأصحاب محال النظارات الشمسيَّة والعدسيَّة، وجدت المقاهي والمحال والنوادي الاجتماعيَّة والرياضيَّة، ومحال الكرزات والحلوى، ومحل طرشي الذيب الشهير آنذاك وبيت قاسم الكصاب صاحب المطعم المشهور قاسم «ابو الكص» حالياً، واشتهرت الأعظميَّة ببعض المقاهي المعروفة في ذلك الزمان كمقهى سعيد، ومقهى زكي، ومقهى راس الجسر الخشبي القديم ويسمى مقهى الوتار أيضاً وهو مقهى صغير شتوي وفي ليالي الصيف تكون طاولات الجلوس فوق السطح، وكانت نصف تلك المقاهي تقع على أطراف درابين محلة الحارة وشارع سعدة التي اندثرت وأتت عليها آفة الزمن.

محلة الحارة التراثيَّة بتفاصيلها الكثيرة، اليوم تعاني الأمرَّين بسبب الإهمال وكثرة التجاوزات، أما شناشيلها وبيوتاتها القديمة فقد تهالك الأغلب منها وأصبحت مجرد خرائب تتكدس على جانبي مدخلٍ وحيدٍ للمحلة ولا مخرج آخر غيره.